حين شاءت الأقدار أواسط القرن العشرين للجمهورية الإسلامية الموريتانية أن تولد من مايشبه العدم ... كان المجتمع إذ ذاك قبائل وجماعات متنوعة ومنسجمة أغلبهم بداة عرفوا عبر حلهم وترحالهم الأرض وألفوها من أقصاها إلى أقصاها...
ساعتها لم يكن نصيب القوم من المدنية إلا يسيرا لكنهم مع ذلك لم يكونوا خلوا من التاريخ والإرث العريض.
بيد أن خلو هذه الربوع من الدولة وسلطانها وعمرانها عدى لمرات قليلة كان هو (اللعنة) ــ إن صحت العبارة ــ التي ظلت تلاحق أهل هذه الأرض ولا تزال .
أيام الإستقلال لم تكن نسبة المتحضرين في موريتانيا تتجاوز الإثنان بالمئة ، لكن ماهي إلا سنوات حتى قفزت النسبة أضعافا مضاعفة . فمخاض ظهور الدولة ، و الظروف الطبيعية (كدورات الجفاف) التي ضربت هذه الأرض ، و أشياء أخرى...... كلها جعلت الموريتانيين ينتقلون بين عشية و ضحاها من مجتمع بدوي إلى مجتمع بدوي آخر !!؟ حتمت عليه سرعة الانتقال أن لايذر في ذلك الإنتقال من سالف حياته شيئا مذكورا ... و أن لا يتدرج في سلم المدنية رويدا رويدا حال غيره من الأمم والشعوب .
هكذا لبس الموريتانيون قشرة المدنية ... و عاشوا في مضاربهم الجديدة بنفس العقليات و نمط الحياة فسرحت قطعانهم في شوارعها و ضربوا خيامهم في مناكبها ... بل و قضوا حوائجهم تماما كما كانوا في ذلك الفضاء المفتوح .
و اليوم ... رغم مضي السنين تلو السنين على نشأة الدولة الوطنية ورغم إرتفاع نسبة ( التحضر ) إلى حدود السبعين بالمئة .... لاتزال حالة السيبة المستفحلة راسخة في وجدان المجتمع ... و لاتزال الفوضى العارمة هي السمة المشتركة بين مجموعاته... ولا يزال الولاء للقبيلة أو الشريحة أو الطائفة هو الأبرز ... ولا تزال الأنانية المقيتة و الفردية و الشره إلى المال و الجاه و المجد ــ و إن على حساب الآخرين ــ هي الخصال التي تكرس النفور من النظام و التهرب من القانون و التحايل عليه واختلاس المال العام وانعدام الضمير المهني ... و بلاوي كثيرة لا يعلمها إلا الله .... بلاو لم تقف لها الدولة بالمرصاد لهشاشة البناء المؤسسي فيها حينا و لحاجة في نفس يعقوب (أو الدولة بالأحرى) حينا آخر ... و لم يعز العقل التبريري السقيم للمجتمع أن يكيفها كما تكيف الأحكام الشرعية ، و أن يضفي عليها و على أصحابها من الأوصاف ما يغطي وجهها الكريه .
كان بقاء موريتانيا نهبا لكل ذلك هو أوجه الأسباب التي قللت من قدرتها على تحقيق الرفاهية والرقي رغم إمكانياتها الكبيرة وشعبها القليل . فحي على هيبة الدولة .
و يبقى العود مابقي اللحاء ، دام عزكم .