المتتبع بتؤدة و صبر و عمق لأحوالنا السياسية و الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية لا بد و أن يحس بقشعريرة تسري في بدنه من أخمص قدميه إلى أعلى نقطة في رأسه لهول التناقضات التي تطبع مجريات حياة الشعب اليومية و أحداث المسار النسقي للدولة
و الاتجاه العام لمقومات المصير المرتقب لها. تناقضات إن لم تدرج في سياق منطقي تكاملي إيجابي بأسرع من الممكن و بدون أن يكون لها على العكس من ذلك مفعول التنافر المغناطيسي التدميري، فإنها قد تجري برياح من التحولات الساخنة التي لن تقوى عليها سفينة هذا البلد التي ما زالت هي شراعية و بألواح و دسر خشبية لم يمسسها من الحداثة أدنى وابل ليمنعها من الاحتراق و الغرق.. تحولات تجري هي الأخرى، على خطورة محتوياتها و تشعبها، في انحسارية شديدة داخل هدوء عين الإعصار العاتي قبل أن يقتلع الأشياء من جذورها و يمزقها في كل الاتجاهات.
فحركية الساحة العامة تبدو في مستجداتها و خطوبها و مجمل أدائها متقدة بالحماس و الأفعال و ردودها و لكنها في خواتمها لا تفصح عن نتائج إيجابية تعلي للتوازن الإيجابي شأنا و هو التوازن الذي تتطلبه بإلحاح طبيعة الهوية و انتماءاتها العقدية و القومية و مميزاتها و ثوابتها.
لا تكاد تنفك على مر الأيام المهرجانات و النشاطات المشابهة عن الانعقاد في كل جهات البلاد و تتخذ على المستوى الثقافي كل الأشكال و الألوان من إحيائية للتراث بشقيه المحسوس الملموس و اللامحسوس و من ملامسة للهوية التاريخية و متصلة بمحاولات السعي إلى الالتحام بالعصر و متطلباته.
فأية حصيلة ذات قيمة نفعية تاريخية كانت أو ثقافية أو سياحية أو اقتصادية تم لحد الساعة رصدها أو جنيها أو جمعها أو نشرها أو الاستفادة منها؟
المهرجانات و الكرنفالات
و ماذا استفادت المدن التاريخية القديمة الأربعة شنقيط، وادان، تشيت و ولاته من هذه المهرجانات التي لا يصل إليها سوى المستفيدون من الأموال التي ترصد لإقامتها فضاء شعريا و ترفيهيا لا غير في انفصام تام عن جوهر فكرة إقامتها أصلا و التي كانت تهدف إلى الحفاظ عليها:
· معالم علم و نبوغ و إشعاع و مكتبات زاخرة بنوادر المخطوطات الإسلامية الوافدة إليها من كل أصقاع العالم الإسلامي،
· و هندسة معمارية متميزة لامست تضاريس الصحراء و راعت خصوصيتها و حفظت مميزاتها و قد ضجت بالحياة في موات رمالها و هدوء حجارتها.
بل إن معالم هذه المدن التاريخية التي صمدت مئات السنين أمام عوادي الزمن قد عانت و إن ما زال ذلك خافيا من ضجيج السيارات و دبيب وطئ الأقدام الكثيف و عوادم السيارات و ارتداد ذبذبات الأصوات بكل تردداتها و ما إلى ذلك من وسائل الحداثة المدمرة كعلب المعادن والبلاستيك و بقايا لفائف السجاير و زيوت السيارات و اللائحة طويلة إلا على المهتمين في الصميم بالحفاظ على الإرث العظيم و الهوية التي حفرها الحجر علما بأنه وحده الحضارة.
و لا ليست المهرجانات الأخرى ذات الطابع الفلكلوري و التراثي التي تعددت و أقيمت في العديد من المدن و البلدات بأوفر حظا في الحفظ و التدوين و التدوين و الاستغلال الأمثل، إذ هي الأخرى تمر كلحظة من لحظات البغاء الثقافي.
المقاومة و الهوية
و ليست المقاومة الوطنية التي يريد لها البعض أن تكون بأوفر حظا في هذه "الفوضى" التي لا صفة لها إلا أنها غير مؤطرة و لا تترك أثرا حتى يحتمل أي وجه للتأويل.
· قراءات خجولة في إشكالية وجودها الذي تحزم حوله شكوك بعضهم و لا يجدون من يردهم عن غيهم.
· و قراءات خجولة كذلك في أصحابها ممن تنسب إليهم مقاومة المستعمر و الإبقاء على هوية الوطن دون خدش. و ما زال المهتمون بهذا الوجه من ثقافة البلد الجوهرية في كينونته و صيرورته دون مستوى الإقناع، لكن يشفع لهم أن لا أحد سواهم له إلمام و لا الشغف بذلك.
لغة الضاد و أهلها المحبطون
و يُكثر في هذه الأيام الذين حملوا أنفسهم مسؤولية الحفاظ على لغة "الضاد" و فرض مكانتها في واقع بلد لم يعد يتقن أهله سوى لغة المنافع المادية و التمرن على ما تتيحه العولمة من ألسنيات إشباع الرغبات الغريزية، يكثرون من النداءات الغير الموحدة الجهد و الغير مؤطرة عمليا و منهجيا باتجاه آذان بها وقر و قلوب لا يفهها أغلب أهلها. و هي النداءات التي لا تتجاوز الصالات التي تطلق فيها وسط هدير الشعراء الذين يتمتعون بتلك اللحظات قبل أن ينصروا و شعرهم الحماسي في صدورهم إلى أن تتاح لهم فرصة أخرى لقراءات متكررة. و تبقى لغة الضاد رهينة محبسي إهمال أبنائها و تجاسر أعدائها السافر صراحة و عمليا على مكانتها.
الرد على المسيئين لأنفسهم
و ها هي الساحة تضج بالتظاهرات الخطابية "الآنية" في واقع الأمر و "الخافتة" لمن يدرك الأشياء فلا تغالطه في الأماكن المغلقة للرد على الإساءة على المسلمين دون عدم إمكانيتها مطلقا فى حق المصطفى الذي عصمه بارئه و أنزله منزلة الحبيب و قال جل من قائل في كتابه الكريم جزما "و الله يعصمك من الناس". لم تكتس هذه الهبة المتواضعة شكلا و مضمونا طابعا عمليا جادا حيث أغفلت شرائط الحداثة و إمكاناتها الهائلة التي استعملها أعداء الدين و أضروا بها المسلمين.
لم تستخدم أية جهة الملصقات التي تحمل الشعارات و الردود على ما حصل. لم تحتجز صفحات في المجلات لنشر المقالات العلمية الرصينة و محتويات من السيرة العطرة. و كذلك لم تنل المنابر - التي كان و ما زال بالإمكان استخدمها بشكل ديمقراطي- حقها من المادة العلمية للرد على التي لم تستح و قد تركت بواباتها منفذا سهلا و مفتوحا أمام ضيقي النفوس و مهزوزي المعتقد لبث سمومهم و إفشاء ضلالهم عن جادة الصواب و حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. و أخشى ها هنا أن نكون قد تركنا الرامي لحال سبيله و اتبعنا الرمية و سلبيتها في أمر هذه الهفوة التي لا تغتفر و الإساءة المجانية الرعناء في بلاد يدين كل شعبها بالإسلام و يعتنق في وحدة نادرة مذهبا واحدا هو مذهب الإمام مالك رضي الله عنه،.
و بالطبع فقد أغفلت طرائق أخرى أكثر صرامة و أنجع منهجية لوقف هذا النزيف في قيم الأمة و ثوابتها و ردع المتطاولين عليها بكل جرأة و وقاحة.
غياب نخب و ترف أخرى
بات من المؤكد أن أفراد النخبة السياسية منقسمون هذه الأيام ما بين مقبل على طفرة مكانية في شؤون تسيير مقدرات البلد جنيا لأرباح النجاحات المحققة في أعقاب السجال الذي تطوى في هذه الأيام آخر صفحاته بعيدين كل البعد عن كل الاهتمامات العالقة.
و أما النخب "الثقافية" فيكفيها غيابا و ضعفا أن أدوارها أضحت مطية للإدعائيين و الوصولين و المسيئين و المرجفين و قد غصت بهم المهرجانات والندوات الفكرية و المحافل الأدبية و العلمية فاكتوى بنار جهلهم جرأتهم أهل الدين و مرتكزاته و ثوابته و كتبه و لغته و كأن قرح الهوان ينخر جسم البلد في غياب أية إرادة للتصويب.
غياب الإطار التنموي الفعال
و تخلو البلاد على عادتها و منذ نشأتها من صخب العمل الميداني البناء الذي تحتضنه على العادة البرامج الإنمائية الطموحة المعدة إعدادا على أيدي مخططين أصيلين برؤى التجديد و المتابعة بعيون المهندسين الساهرين على الإتقان و التميز و رؤية أعمالهم تشق طريقها إلى التشكل و الإسهام في نهضة البلد كما يحلو لكل شعوب العالم أن تصنع و ترى. كما تخلو من أي مظهر من مظاهر الحراك التنموي اللهم ما يكون على ضآلته من الذي توجه إليه توجيها المنظمات الدولية المانحة و المساعدة و المقرضة كمؤسسات النقد و الصرف من ورش تدفع إليها دفعا كذلك و تستأثر في قيامها بأدوار التسيير و التوجيه.
هي إذا حمى الكسل التنموي فكرا و عملا و اختيارا إراديا للبقاء في مؤخرة الركب و استجداء المساعدات و تبذيرا للمقدرات لصرفها على حلقات الكلام شعرا و نثرا و على مهرجانات كرنفالية تفتقر إلى الروح الوطنية المبدعة الخلاقة، للتملق و الاستجمام و الانحلال الخلقي و البعد عن قيم الوطن المميز و للإمعان في الانفلات و التحلل من دوائر تحصين شرع الله و منظموته الخلقية الفاضلة و الارتماء في أحضان قشرية الحضارة الجديدة بعيدا عن جوهرها.