خطوتان متعثرتان: من التثقيف الحرفي إلى اكتشاف المواهب! / محمد الأمين الفاضل

في هذا المقال سنتحدث عن خطوتين متعثرتين، إحداهما أطلقها مركز خطوة للتنمية الذاتية في العام 2007، والثانية أطلقتها جمعية خطوة للتنمية الذاتية في العام 2024، وسنبدأ بالخطوة الثانية.

(1)

في يوم 07 مارس 2024، تم الإعلان عن انطلاق برنامج خطوة التدريبي لاكتشاف وتنموية المواهب الشبابية، وقد جاء في الكلمة التي ألقيت بالمناسبة:                           "- إيمانا منا بأن الثروات التي تسير فوق الأرض (المواهب)، ليست أقل قيمة من الثروات الموجودة في باطن الأرض (المعادن)، وأن الجهود التي تبذل والأموال التي تنفق للتنقيب عن الثروات في باطن الأرض يجب أن ينفق ما يماثلها للتنقيب عن الثروات التي تسير فوق الأرض؛

ـ قناعة منا بضرورة التحرك العاجل لمواجهة المخاطر التي يواجهها شبابنا، والتي تتمثل في البطالة، وتفشي الجريمة، والهجرة، وتنامي روح اليأس والإحباط؛

ـ  تحملا منا للمسؤولية التي يجب أن يلعبها المجتمع المدني في مواجهة هذه التحديات والمخاطر؛

ـ سعيا منا للمشاركة ميدانيا في الجهود المبذولة من طرف الحكومة لمواجهة هذه التحديات والمخاطر، فإننا في جمعية خطوة للتنمية الذاتية لنعلن على بركة الله إطلاق أول برنامج تدريبي في موريتانيا لاكتشاف المواهب الشبابية وتنميتها ورعايتها، ونأمل أن يستفيد من برنامجنا التدريبي هذا 1000 شاب خلال العام 2024، ويتمثل هذا البرنامج التدريبي في:

1ـ تقديم دورة أساسية في مجال اكتشاف الموهبة واستغلالها، وسيستفيد من هذه الدورة كل المشاركين في البرنامج. سيتلقى المشاركون في دورة الموهبة اختبارا وعلى أساس نتائجه يتم فرز من سيواصل منهم في البرنامج التدريبي للاستفادة من الدورات الأخرى ذات الصلة؛

2ـ تقديم دورات مكملة في مجال : التفكير الإبداعي ـ الاتصال الفعال ـ التخطيط الشخصي ـ إدارة الوقت ـ مهارات العمل الجماعي؛

3ـ تقديم دورات في مجال التخصص، وذلك بعد أن يتم تقسيم المشاركين في البرنامج إلى مجموعات متجانسة حسب الاتجاهات والميول والمواهب المشتركة لدى كل مجموعة، لتتلقى بعد ذلك كل مجموعة، وعلى حدة، دورة متخصصة في المجال الذي يمتلك فيه أعضاء تلك المجموعة موهبة مشتركة؛

4 ـ تقديم دورات تأطير ودعم للموهوبين الذين تأهلوا للمشاركة في مسابقات وتصفيات إقليمية أو دولية؛

5ـ تقديم الاستشارات مع المتابعة المستمرة للموهوبين المتميزين."
لم نتمكن في جمعية خطوة، وبعد أكثر من عام من الإعلان عن هذا البرنامج التدريبي الطموح من تجاوز النقطة الأولى من البرنامج، وهي النقطة المتعلقة بتنظيم دورات لاكتشاف وتنمية المواهب الشبابية، وبالفعل فقد نظمنا العديد من الدورات التي استفاد منها عدد معتبر من الشباب في العاصمة نواكشوط، وفي لعيون وأكجوجت وشنقيط.

كنا نأمل عند انطلاق هذا البرنامج التدريبي الطموح، أن ننتقل به من برنامج أطلقته جمعية بإمكانيات متواضعة، إلى برنامج وطني تشارك فيه القطاعات المعنية، ومن أجل ذلك راسلنا معالي وزير تمكين الشباب والرياضة والخدمة المدنية في يوم 08 أغسطس 2024، وأطلعناه على البرنامج، وكنا نأمل أن نتعاون مع الوزارة لتوسيع البرنامج حتى يشمل كل الجمعيات والأندية الشبابية في مختلف ولايات الوطن، وراسلنا في نفس الفترة معالي وزيرة التربية وإصلاح نظام التعليمي، سعيا لتوسيع البرنامج ليشمل الأقسام النهائية في الثانويات في كل ولايات الوطن، وراسلنا أيضا رئيسة جهة نواكشوط سعيا لأن تستفيد من البرنامج الجمعيات والأندية الشبابية في العاصمة نواكشوط، ولكن كل هذه المراسلات لم تثمر عن أي تعاون من أي نوع.

إن غياب الشراكة مع الجهات المعنية، لن يمنعنا من إطلاق الموسم الثاني من برنامجنا التدريبي الطموح، والذي نحضر له حاليا، وكلنا أمل أن يأتي اليوم الذي يستفيد فيه 1000 شاب موريتاني من كل دورات البرنامج التدريبية التي تم ذكرها في الإعلان التأسيسي.

وبكل تأكيد، فسيأتي اليوم الذي سيدرك فيه الجميع أهمية هذا البرنامج التدريبي الطموح والمتميز، والذي نهنئ أنفسنا على الجرأة في إطلاقه، رغم كل الصعاب والتحديات، وهذه التهنئة تدخل في إطار التحفيز الذاتي، ولا تخفى أهمية التحفيز الذاتي للاستمرار في تنفيذ المشاريع الطموحة التي قد لا تلقى ما تستحق من اهتمام رسمي أو شعبي.

(2)

في يوم 1 سبتمبر 2007، أطلق مركز خطوة للتنمية الذاتية من مقاطعة عرفات، برنامجا تدريبيا في مجال التثقيف الحرفي، وسعى المركز حينها لأن يقيم شراكات مع الجهات المعنية في مجال التكوين المهني ومحاربة الفقر، وذلك لتوسيع هذا البرنامج التدريبي ليصبح برنامجا وطنيا، ولكن تلك المحاولة لم تنجح، رغم زيارة العديد من المسؤولين عن التكوين ومحاربة الفقر في بعض القطاعات الحكومية للمركز، والاطلاع على أنشطته وبرامجه التدريبية، ومن بين من زار المركز موظفون من مفوضية الحماية الاجتماعية، ووكالة تشغيل الشباب، ووزارة المرأة، وقد انبهر كل الزائرين بالبرنامج التدريبي لمركز خطوة، ولكن ذلك الانبهار لم يثمر أية شراكة ولا أي تعاون.

ما يؤسفني حقا هو أن تلك الجهات ضيعت فرصة ثمينة على البلد، فلو أنه تم تبني هذا البرامج، وفتحت مراكز للتثقيف الحرفي في كل المدن الكبرى، لما واجهنا اليوم مشاكل توفير اليد العاملة بعد ترحيل المهاجرين غير النظاميين.

في يوم الجمعة 16 أغسطس 2024، أعدت تقديم هذا المقترح من خلال مقال موجه إلى معالي وزير التكوين المهني والصناعة التقليدية والحرف، وتضمن المقال مقترحين اثنين، أولهما يتعلق بنظافة مدينة نواكشوط، وحاول أن يجيب على السؤال: لماذا لا نجعل من القمامة موردا لتوفير الدخل وتشغيل الفقراء؟ وهذا المقترح ليس هو موضوع حديثنا اليوم، والمقترح الثاني يتعلق بالتثقيف الحرفي، وهذا نص المقترح، وكما ورد في المقال المذكور، والذي اطلع عليه بالفعل معالي الوزير الموجه إليه، ووعد بدعوة لنقاشه، ولكن تلك الدعوة لم تصل إلى كاتب هذه السطور لحد الآن.
لماذا لا نحارب البطالة من خلال برامج واسعة في التثقيف الحرفي؟  

لا خلاف على أن نسبة كبيرة من ثرواتنا في هذه البلاد تستنزف من طرف عمال أجانب لهم حظ لا بأس به من التكوين والتخصص في مجالات معينة، بالمقارنة مع اليد العاملة الوطنية، ومواجهة هذا النوع من منافسة اليد العاملة الأجنبية يحتاج بالفعل إلى الاهتمام بالتكوين المهني، ولكن وفي المقابل، فإن هناك نسبة كبيرة من ثرواتنا ما تزال تستنزف من طرف يد عاملة أجنبية غير متخصصة، من خلال  ممارستها لحرف ومهن بسيطة جدا، لا تحتاج لتكوين مهني بالمفهوم المتعارف عليه، ومواجهة هذا النوع من منافسة اليد العاملة لا يحتاج لتكوين مهني لمدة سنة أو سنتين، وإنما يحتاج  ـ في الأساس ـ إلى تغيير عقليات وإلى التوعية بأهمية العمل، مع تكوين أو تدريب مبسط وقصير المدة على حرفة ما أو مهنة ما، وهذا هو ما أطلقنا عليه في مركز الخطوة الأولى "التثقيف الحرفي"، تمييزا له عن التكوين المهني. ولتجسيد هذا المقترح ميدانيا قمنا في العام 2007 بفتح مركز للتثقيف الحرفي في مقاطعة عرفات، وبدأنا دورات في صناعة الحلويات، وكنا نأمل حينها أن يعمم هذا النوع من المراكز المتخصصة في التثقيف الحرفي في مختلف ولايات الوطن.

كنتُ في تلك الفترة أقرأ كثيرا عن تجربة محمد يونس الرئيس الحالي للحكومة المؤقتة في بنغلاديش، وقد استلهمت ـ بشكل أو بآخر ـ فكرة مراكز التثقيف الحرفي من فكرته التي ابتدعها في نهاية السبعينات من القرن الماضي، والتي أحدثت ثورة في مجال مكافحة الفقر من خلال القروض الصغيرة (بنك غرامين أو بنك القرية).

جاءت فكرة بنك غرامين أو بنوك الفقراء كما يسميها البعض، لتحل مشكلة تمويل مشاريع صغيرة للفقراء الذين لا يملكون ضمانا يأخذوا مقابله قروضا من البنوك، وجاءت فكرة مراكز التثقيف الحرفي من أجل أن تقدم فرصة لتكوين وتأهيل فقراء لم يتعلموا أو تركوا المدرسة في وقت مبكر، أو تجاوزوا عمريا مرحلة التكوين، وحرموا بالتالي من التكوين أو التدريب على حرفة أو مهنة بسيطة تمكنهم من العيش الكريم.

كان الفقراء في بنغلاديش يموتون بسبب الجوع في السبعينيات من القرن الماضي، وكان لابد من التفكير خارج الصندوق للبحث عن حلول لمحاربة الفقر، فكر محمد يونس خارج الصندوق وأوصلته أفكاره إلى  ضرورة تأسيس بنوك توفر التمويل للفقراء، يكون بإمكانها أن تقدم لهم قروضا بلا ضمان، ومن المعروف أن القروض البنكية قائمة بالأساس على الضمان، مما حرم الفقراء الذين هم في أمس الحاجة إلى القروض من الحصول على قروض.

كانت الفكرة غريبة ومجنونة في ذلك الوقت، وقوبلت بالكثير من السخرية والاستهزاء من طرف البنك المركزي وكبار الاقتصاديين في بنغلاديش، لأنه لم يكن حينها هناك من يستطيع أن يتخيل أنه يمكن لأي بنك في العالم أن يقدم قروضا لفقراء لا يملكون أي ضمان.

ولقد تبين فيما بعد بأن الفكرة لم تكن مجنونة، بل كانت فكرة رائدة، أحدثت ثورة حقيقية في مجال التمويلات الصغيرة ومحاربة الفقر، فحجم قروض بنك غرامين منذ تأسيسه وحتى اليوم وصل إلى 38 مليار دولار، واستفاد من تلك القروض 10 ملايين فقير، من بينهم 21 ألف متسول  انتقلوا بفضل هذه التمويلات من التسول إلى الحياة النشطة، والبنك ينشط في 94% من قرى بنغلاديش، وكانت معدلات استرداد ديونه مرتفعة جدا، رغم أنه لا يشترط أي ضمان،  فتراوحت ما بين  97% إلى 99.6 %، وفتح البنك فروعا كثيرة في العديد من الدول، وله 19 فرعا في 11 ولاية أمريكية، واستفاد من خدماته هناك أكثر من 100 ألف فقير أمريكي.

لم يكن منطقيا بالنسبة لمحمد يونس أن يتواصل حرمان الفقراء في بنغلاديش من الحصول على تمويلات هم في أمس الحاجة إليها بحجة أنهم لا يملكون ضمانات للحصول على قروض، وبنفس المنطق يمكننا القول بأنه ليس من المقبول حرمان فقراء في موريتانيا من تعلم مهنة أو حرفة بحجة أنهم لم يتعلموا أصلا، أو أنهم تجاوزا السن التي يسمح لأصحابها بالتكوين في معاهد ومراكز التكوين المهني. 

إن مراكز ومعاهد التكوين المهني الموجودة في بلادنا لا يمكن أن يستفيد منها الموريتانيون الأقل تعليما والأكبر سنا، ولا تحل مشاكل الكثير من المستهدفين، وذلك لأنها:

1 ـ  تشترط لدخولها مستويات دراسية معينة، وكذلك سنا عمرية محددة. أما الشريحة التي تستهدفها فكرة مراكز التثقيف الحرفي فهي أقل تعليما، وليست بالضرورة في مرحلة عمرية محددة.

2 ـ  مراكز التكوين المهني تدرب على آلات باهظة الثمن لذلك فالمتدرب لا يستطيع بعد التخرج أن يفتتح ورشة تعتمد على الآلات التي تدرب عليها لارتفاع أسعار تلك الآلات. أما فكرة مراكز التثقيف الحرفي فهي قائمة على أساس أن المتدرب هو شخص فقير جدا ولا يستطيع أن يفتتح ورشة إلا إذا كان رأسمالها قليل جدا.

3 ـ طول فترة التكوين في مراكز ومعاهد التكوين، قد تكون مقبولة بالنسبة لبعض المستفيدين ولبعض المهن، ولكنها ليست مناسبة لبعض المهن ولبعض المستفيدين، ولذا فدورات مراكز التثقيف الحرفي دورات قصيرة المدة ويمكن أن يشارك فيها عدد كبير جدا من المستهدفين. 

لقد أحصينا في مركز الخطوة الأولى للتنمية الذاتية عشرات الحرف والمهن الصغيرة التي يمكن أن توضع لها برامج تدريبية متكاملة في التثقيف الحرفي. وعمليا فقد نظمنا في العام 2007 ـ وبإمكانيات متواضعة جدا ـ برنامجا تدريبيا متكاملا في التثقيف الحرفي، في مجال "صناعة الحلويات"، استفاد منه العشرات من أرباب وربات الأسر في مقاطعة عرفات.

تم التدريب على صناعة الحلويات على فرن مصنع محليا ويشتغل بالغاز، ويتميز هذا الفرن بالمواصفات التالية:

ـ متوفر محليا وبسعر في متناول الفقراء.

ـ هذه الأفران قادرة على إنتاج كميات كبيرة نسبيا من الحلويات تكفي لتوفير ما يحتاجه محل حلويات صغير.

ـ هذه الأفران تنتج حلويات بجودة عالية، ولا يمكن التفريق بينها وبين منتجات محلات الحلويات الكبرى في العاصمة، والتي استثمرت فيها عشرات الملايين من الأوقية.

خلاصة هذا المقترح : إننا في هذه البلاد بحاجة في مجال محاربة الفقر إلى مراكز للتثقيف الحرفي ولتغيير العقليات وللتوعية بأهمية العمل،  فهذه المراكز قد تمكن آلاف الموريتانيين من تعلم حرفة أو مهنة توفر لهم دخلا هم في أمس الحاجة إليه. هذا عن المهارات الصلبة، أما المهارات الناعمة فستكون موضوع مقترح آخر إن شاء الله.

 

حفظ الله موريتانيا...

محمد الأمين الفاضل 

[email protected]

 

 

22. مايو 2025 - 9:41

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا