رأينا في الجذاذتين السابقتين، أن الغاية المطلوبة من التزلف السياسي هي المبالغة في حصول المصلحة الشخصية، ورأينا أن جهة التزلف السياسي ليست مقصورة علي النظام الذي تبدو الأطماع فيه كثيرة ، حيث وجدنا أن التنافس في التزلف،
يكون أشد وأكثر حماسا في المعارضة، والآن سوف نسلط الضوء علي نفسية المتزلف ،ذلك أن كشف عيوب التزلف السياسي يقتضي إثارة كل مسألة تتعلق به، وليست نفسية المتزلف، بأقل شأنا في التزلف من الغاية التي تدفع إليه ، وليس أحسن منها موضوعا لكشف عيوب التزلف السياسي ، لما تكشف عنه من مظاهر التزلف ، وآلياته المستخدمة فيه .
إن المتزلف سواء في النظام أو في المعارضة ، يختلف عن غيره من السياسيين المخلصين لقضيتهم ومواقفهم ، في أي جانب كانوا ، حيث يعيش المتزلف ـ في نفسه ـ نوعا من السباق مع الزمن حتي لاينس المتزلف له الدور الذي يقوم به ، ويعيش نوعا من سلوك الحانوتي ، يبيع فيه موقفه ومساندته ، وهو في ذلك شديد الحرص علي أن يجد مقابل كل ما قدم من دعم ومساندة.
لكن صفة البخل هذه لا تظهر بشكل جلي إلا عند المتزلف الحقيقي الذي يتنقل بحثا مصلحته ، سواء دفته إلي مساندة الشيطان ، وأكثر حالات هذا التزلف هي : المتزلف للمعارضة بعد خروجه من النظام .
ويحصل ذلك عند استعجال المتزلف أن يكافئه النظام ؛لأنه قادر في كل لحظة علي تقديم ثمن المساندة ، وعندما تتأخر تشتد نبضات قلب المتزلف خشية أن يكون مهملا أو منسيا ،ويشعر أن عليه وقف المساندة والدعم ، حتي يجد مقابل ما سبق أن قدم ، وإلا فإن دعمه ومساندته هي تجارة ،وليس لصاحب الحانوت أن يعطي تجارته بدون مقابل.
لذلك نجد أن المتزلف للمعارضة بانضمامه إليها وخروجه من النظام يريد بعد أن فصل لنفسه ثوب التزلف الذي يلبس. أن يحدد لنفسه المصلحة التي يسعي إلي تحقيقها ..من خلال ما يؤديه من خدمة المعارضة ...في وقت لا يطمع فيه حصول تلك المصلحة ، لأن المعارضة لم تصل بعد إلي السلطة ، مما يعني أنه وفي(..) للمعارضة .
ويُحَدث المتزلف الحقيقي نفسه في أحلام اليقظة ، بأن أي شخصية معارضة وصلت إلي السلطة ، ستكون ممنونة له بما قدم لها ..ولن تنساه ، وسيكون حظه من المناصب ما شاء هو، مع ترك الحبل له علي الغارب ، ينهب ما يشاء من المال العام ، ويعيث في الأرض فسادا ، معتبرا أنه ما ضره بعد الظهور بمقارعة النظام ،وسبه ،وشتم قيادته ، أي شيء آخر .
وجدير بالذكر هنا أن المتزلف للمعارضة ، أي لشخص (رئيس) لا يعرف من هو ، سيكون أشد حماسا ، لينال رضي جميع الأطراف ...ولن يرض بجهد المتزلف العادي الذي يعرف من يوجه إليه تزلفه (النظام) .
فهو يشعر أن عليه أن يرضي الجميع في المعارضة ، وأن يكون علي مسافة واحدة من أطرافها ، ليشعر من يساعده الحظ في الوصول إلي السلطة أن المتزلف كان يخدمه مباشرة .
يتعين علي هذا المتزلف إذا،أن يتزلف لجميع أطراف المعارضة :المعاهدة ، والمقاطعة ،والمشاركة ..، وأن يُعجبها جميعا ، ومن أجل ذلك ، لابد أن ينال رضي الجميع ، وليس أحسن من تجرع الألم ، سبيلا إلي ذلك ، حيث يؤدي إلي تعاطف الجميع معه ، خصوصا إذا كان يتجرع الألم بسبب دعمهم ومساندتهم في وقت لا يطمع منهم شيئا غير أن يحتفظوا به وبجهده في الذاكرة ولا ينسوه.
لهذا نجد أن المتزلف في صفوف المعارضة يكون دائما فظا غليظا ، يخرج عن حدود المعقول من النقد السياسي ليثير غضب من بيدهم السلطة ليحبسوه.. ـ مثلاـ ويسعي دائما إلي ما يسبب له المضايقات ، والألم ، حتي إذا حصل له مكروه يضمن أن ينال بما يتعرض له من إهانة رضي المتزلف له ـ الذي لا يعرف من هوـ وليظهر علي أنه صاحب قضية ، وهي في حقيقة الأمر قضية ، لكنها مجرد قضية :مرتزق متملق ، أجشع من أشعب ، وأبخل من مادر ، "وأسفه من أندلوس الذي يستبدل مصحفا بكلب".
هذه هي أشد مظاهر التزلف قبحا ووقاحة ، ورذالة ،وفي هذه الحالة يختلف الأمر بالنسبة للمتزلف البسيط ، عنه بالنسبة للمتزلف الكبير(الشخصية المرموقة) حيث يختلف وزن العمل الذي يؤديه المتزلف .
فصاحب الشخصية المميزة ، ينظر إليه المتزلف له ، بأن قليلا مما يقوم به من معارضة النظام ، أكثر تأثيرا علي الأخير من كل ما يقوم به متزلف عادي ، ذلك أن هذه الشخصية ، لها وزن أصلا ، وخارجة من النظام .
فكونها قادمة من النظام يتوقع بسببه المتزلف ، و المتزلف له، أن يقول الناس العاديون بأن النظام لا خير فيه مادام يشهد هجرة مثل هذه الشخصيات المرموقة ، هذه آلية يستخدمها المتزلف السياسي من العيار الثقيل في التزلف، ونراه يتوب من الفترة التي أمضاها في النظام ، وأنه لا يريد إلا الخير للبلد ،وأن ذلك هو ما دفعه إلي الخروج من عباءة النظام !! .
إذا هذه الآلية متاحة لأصحاب الشخصيات المعتبرة ، ويفتقر إليها المتزلف العادي .
إن مسار التزلف السياسي من النظام إلي المعارضة ، يعد من أبشع وأسوء مظاهر التزلف ،إذ يشتد غضب المتزلف علي النظام ـ مثلا ـ إذا استبطأ حصول نتيجة من تزلفه له ، ويحاول أن يلفت الانتباه إليه ، لعل النظام نسي جهوده الداعمة ، ويذكره بأنه ، كما ينفع ، يضرـ أيضاـ حيث أنه قد يكون مُرحبا به وبجهوده في الصف الآخر (المعارضة) ، ويتجلى غضبه ـ أولاـ بشكل خجول ،في شكل نقد للنظام يظهر من خلاله أنه قادر علي التحول إلي جهة المعارضة ، لعل النظام يحول دون حصول ذلك ، ويرضي هذه الشخصية المرموقة ، حتي لا تذهب إلي المعارضة ، وإذا كانت هذه الشخصية مثقفة ، وكانت قد شغلت منصبا ساميا في الدولة ، فإنها لمزيد من الضغط ،تُظهر أن عندها المزيد مما يقدح في النظام ويهدده، لم تظهره بعد ، ولكنها قد تظهره لاحقا ؛ لأن الأمر يتواصل...إذا لم يتم تداركه، وإرضاء صاحبه؟! .
ولمواجهة هذه الحالة ، إما أن يرضي النظام هذا المتزلف ، ويتم تعيينه في الحال ـ كما شاع وانتشر في نظام ولد الطايع ـ وإما أن يتم تجاهله، وإهماله ، وهو الأسلوب الأنسب لهذه الظاهرة .
إن حال تجاهل هذا النظام الحالي لمثل هؤلاء المتزلفين، قد يكون أكثر من تهميشِ ، شغفا شديدا لمعرفة ما يتكتم عليه هذا المحارب ، المتزلف (أيا كان )، وما لم يقل بعدُ مما يقدح فيه ويهدده ، لذلك لم يعبأ بتهديده ليري ما في جعبته ، وما في جعبته بخصوص هذا النظام الحالي ، إلا أكاذيب وافتراءات ، في ثوب من التلاعب بالألفاظ ، وإهانة المتلقي واللعب علي عقله، بتقديم أخبار يُعلم كذبها مباشرة ، من تعذر سبل الحصول عليها ـ حسب مايرد من سياق الخبرـ مما يعني أنه مجرد كاذب أفاك ، يحقر نفسه ويحتقر الآخرين.
إن تهديد النظام بالخروج منه هو آلية كانت ناجعة ، حيث كان المتزلفون يستخدمونها أيام نظام ولد الطائع ، وهي حالة مشهورة جدا ، لكن النظام الحالي وبحكم اكتفائه ـ لضمان ولاء الشعب ـ بما يقوم به في أطراف البلد ومركزه ، من إنجازات كبيرة مشهودة ، لا مراء فيها ، ولا يمكن للمرء إنكارها ، جعله ذلك لا يهتم كثيرا ، بمن يأتي أليه متزلفا ،وليس مقتنعا ، ولا يهتم أيضا بمن يذهب عنه ، مغاضبا يريد الإرضاء ، فالأول لن ينفعه إلا بما كان قد حقق ، والثاني لن يذهب عنه ، إلا بنفسه ، وخبث سريرته ، وجشعه ، وهذا لعمري أحب إلي النظام من بقائه في صفوفه.
وعندما يشعر المتزلف أن خطته الهادفة إلي استرضائه لم تفلح ، تمادي في الغضب وحصل منه أعنف ،وأقبح ،وأرذل مظهر من مظاهر التزلف السياسي ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ إذ لم يعد مجديا بقاءه في النظام ، وحينها يبدأ يفكر كثيرا فيما سيعوض به خسارة الطمع في النظام القائم ، فلم يجد سوي الطمع في نظام لم يقم بعد ، وهذا يعني ـ بمعني آخر ـ أن التزلف للمعارضة ليس إلا تزلفا للنظام ، ولكنه نظام لم يقم بعد ،مما يعني أن التزلف والجشع جبلة ابتلي بها الله بعضا من عباده ، خصوصا إذا كان المتزلف في سعة من عيشه وعلمه ، وتقدم في عمره وعمله.
نسأل الله الخير والعافية