لقد تعلمت من سنين الخدمة و الكدح في مجال التعليم في بلادنا أن أقرأ المرارة كل يوم في وجوه البائسين ممن رمت بهم الاقدار في ثنايا النسيان و اللامبالاة و الفوضى العارمة في هذا القطاع , و أن أرى الإحساس بالضياع و الحيف و الغبن في أدئهم و سلوكهم, و لقد تعلمت أن أطارد حلم الإصلاح الذي تنفست عطره ردحا من الزمن و تتبعت خيوط دخانه أياما عصيبة و ليالي معتمة دون فائدة.
التعليم في بلادنا يعلمك أن تخلع ثوب الرسول لترتدي خرقة الإستشفاق , و تنزع رداء الرتبة العالمة ملتحفا معطف الإستتعطاف , و أن تحس بالوحدة و الفردية في حمل الهم الوطني , متجردا من قاعدة تقسيم الأدوار , و روح عمل الفريق و طمأنينة الجماعة , فقط لأن الدولة غائبة تماما غياب الحس الوطني , غائبة من أجل الغياب مرة و لأن الغياب سمة من سماتها مرة أخرى , و مغيبة تارة بفعل الممارسات النمطية القاتلة , و تارة أخرى بفعل الفشل المتكرر الناجم عن غياب الرؤية الواضحة.
يرزح التدريس و المدرس في هذه البلاد تحت وطأة التجاهل و الجهل و التجهيل منذ زمن بعيد , فكل شيء في هذا القطاع اليوم أصبح مجهولا في مجهول و جهلا يلفه جهل أعظم منه , و كل الطرق فيه تؤدي إلى روما عتيقة في فن الفشل , فمن الأقسام المكتظة حد الإحتباس بالأميين من الأطفال و المدرسين إلى ساحات الضياع , إلى شوارع التفسخ و الإنحلال إلى بيوت المسلسل الهندي , التركي , الأمريكي , إلى العوالم المفتوحة على الغث و السمين في "النت" الذي أصبح اليوم يحتل مكانة كل من غاب مدرسا كان أو أبا و كلهم غائبون تمام الغياب.
تعلمت من سنين الشقاء في مهنة الرسول في هذه البلاد أن أرى تفاصيل قسوة الطبيعة مقروءة على جسد كائن من الكائنات كرمه الله فأهانته قرارات البشر و رمت به في غيابات الجب , لينال من النسيان و التناسي و الظلم و التسيب و العشوائية و الحيف و التهميش ما به يعلو شأن كل متاجر فاشل , و من تطريز الأكاذيب و تزوير الحقائق ما به يبتإس كل مهتم بشأن التعليم , ففي كل ركن من مؤسسات الفشل المنوطة بشأن التعليم عندنا خلايا قد نسجت لحياكة الخيانة و الكذب و الرشوة , و طاولة عليها تدار كؤوس الخنوع و الذل و التبعية لهذا "المسؤول" أو ذاك.
تعلمت من سنين الخدمة أن التعليم في بلادنا ساحة مفتوحة أمام كل المصائب , فلا إرادة للإصلاح تلوح في الأفق و لا سياسة للحد من النزيف العلمي و الأخلاقي الذي أبتلي به على أيدي المتسكعين على أبواب الرزية ممن يتبادلون الأدوار و يتداورن الكراسي و المكاتب دون رقيب و لا حسيب , فكل من يمسكون اليوم بزمام الأمور في إدارات التعليم من وزراء و رؤساء مصالح و غيرهم ما جاؤوا مطلقا من رحم الترقي بالكفاءة و النزاهة و الإستقامة بل من "سماوة" التلصص و الوساطة و الرشوة و الحسابات السياسية اللعينة.
لكن الدولة تحتاج لإصلاح قطاع التعليم أكثر مما تحتاج الكراسي و المناصب السياسية و أكثر مما تحتاج لرئيس أو وزير أو "أمين" , أو مدير. و لا شك أن الضائقة المادية للمدرس و تواضع الإمتيازات الظالمة في مجملها , جعلت رواد الميدان يزهدون فيه و يتقاعسون عن تأدية الواجب في ظل إنعدام الوطنية و قلة الصدق في الإنتماء , حيث يعتبر أغلب هؤلاء ولوج التعليم خطوة نحو الإلتحاق بميادين أخرى أكثر مردودية من الناحية المادية مستعينين في ذلك بالوساطات و الرشاوي و الوجاهات التي لا تؤمن بالمصلحة العامة و لا تقدر شأن الدولة في الإصلاح , و بهذا تستمر صناعة الفجوات و الثغرات في هذا القطاع لصالح التكدس و التضخم البشري في قطاعات أخرى هي أقل شأنا من التعليم , لتتحمل الدولة أعباء أناس لا يقدمون خدمة جلية على حساب قطاع لا غنى للنهوض عنه و لا بديل له في شأن الرقي و التنمية و الوعي بالحقوق و الواجبات. - يتواصل -
حمزه ولد محفوظ المبارك. أستاذ :علوم- فيزياء , ثانوية ولد ينج.