ثلاث قراءات  لبيان نواب المعارضة / محمد الأمين الفاضل 

طالعتُ بيانا موقعا من طرف نواب المعارضة، صادرا في نفس اليوم الذي صادق فيه البرلمان على مشاريع القوانين المتعلقة بالفساد، والتي شملت تحديدا:

 1ـ مشروع القانون المتعلق بالسلطة الوطنية لمكافحة الفساد؛

2 ـ  مشروع القانون المتعلق بالتصريح بالممتلكات والمصالح؛

3 ـ  مشروع القانون المتعلق بمكافحة الفساد.

طالعتُ البيان وقرأتُه قراءة أولى بعين محايدة، بحثا عن انتقاد وجيه تضمنه، ولكني لم أجد انتقادا وجيها واحدا يمكن الاستدلال به على أن قوانين الفساد المصادق عليها تشكل عبثا تشريعيا، أو أنها تخدم مراكز النفوذ وتمنحها حماية غير مستحقة، كما جاء في بيان نواب المعارضة.

ثم قرأتُ البيان قراءة ثانية، ولكن هذه المرة ليس بعين محايدة كما حصل في القراءة الأولى، وإنما بعين سياسية، لا تكتفي بالدلالة اللغوية لمحتوى البيان، وإنما تبحث في توقيت إصدار البيان، وفي مضامينه ورسائله السياسية التي يريد إيصالها للرأي العام، فخلصتُ بعد هذه القراءة الثانية، إلى أن نواب المعارضة وجدوا أنفسهم أمام ثلاثة قوانين لمحاربة الفساد أعدت وفق أحدث المقاييس الدولية، ولم يجدوا ما ينتقدونها به، فسعوا إلى أن يحرموا النظام من أي مكسب سياسي من خلال إعداده لهذه القوانين والمصادقة عليها بعد ذلك، فما كان منهم إلا أن سارعوا إلى إصدار بيان مليء بعبارات فضفاضة لصرف النظر عن أهمية القوانين المصادق عليها.

 ولمزيد من التشويش على تلك القوانين، لم يكتف نواب المعارضة ببيانهم الخالي من أي حجة متماسكة، وإنما أضافوا إليه تصريحات للتشويش أكثر، ادعى فيها بعضهم أن هذه القوانين جاءت بإملاءات وضغوط خارجية، وادعى البعض الآخر أن النواب أعطوا لأنفسهم مهلة ثلاث سنوات قبل التصريح بممتلكاتهم.

ثم قرأت البيان قراءة ثالثة ولكن هذه المرة بعين ثالثة، لا هي بالعين المحايدة، ولا هي بالعين السياسية، وإنما هي بعين المتابع الذي أتيح له أن يتابع مشاريع هذه القوانين منذ أن كانت تعهدات مسطرة في جمل قصيرة في صفحات برنامج "طموحي للوطن"، ثم تحولت بعد ذلك إلى مسودات نصوص بفضل جهد كبير بذلته لجنة فنية ضمت العديد من الخبراء الوطنيين، وكان لي الشرف بعضويتها، ثم أحيلت تلك المسودات إلى الحكومة التي عمقت دراستها، وتوقفت مع كل جملة فيها، فصاغتها من جديد وصادقت عليها في مجلس الوزراء المنعقد في يوم الخميس الموافق 16 يناير 2025، لتقدمها بعد ذلك للبرلمان، فتثير ما أثارت من نقاش، وهذا النقاش كنتُ أيضا مساهما فيه، وذلك من خلال ندوة نظمناها في صالون المدونين عن الجدل الدائر حول  استثناء النواب من التصريح بالممتلكات، وكذلك من خلال بيان وقعته 20 منظمة طالبت بإدراج النواب في لائحة الملزمين بالتصريح، أعقبه لقاء برئيس حزب الإنصاف، أكد لنا فيه أن النواب لن يستثنون من التصريح بالممتلكات، وأن الفريق البرلماني لحزب الإنصاف سيجري تعديلا على مشروع القانون لإضافة النواب إلى لائحة المصرحين بالممتلكات، وسيصوت على ذلك، وهو ما كان.

إن القول بأن هذه القوانين جاءت بإملاءات خارجية، قولٌ لا يستقيم، فهذه القوانين كانت أجنة في رحم "طموحي للوطن"، ولمن أراد أن يعيد النظر إليها، وهي ما تزال أجنة في رحم صفحات البرنامج الانتخابي طموحي للوطن، فلينظر إلى هذه الفقرة المنقولة حرفيا من برنامج طموحي للوطن:

"ج ـ مراجعة قانون مكافحة الرشوة، لا سيما فيما يتعلق بأحكام تجريم قضايا الرشوة، والتصريح بالممتلكات، وتضارب المصالح، سعيا إلى مواءمتها مع أفضل الممارسات الدولية في هذا المجال".

هكذا كان مشروع القانون المتعلق بالتصريح بالممتلكات والمصالح، ومشروع القانون المتعلق بمكافحة الفساد، أما بخصوص السلطة الوطنية لمكافحة الفساد، فقد ظهرت لأول مرة في التعهد التالي، والذي ننقله بالحرف من برنامج طموحي للوطن:  

"و ـ إرساء نظام متابعة فعال لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الرشوة، يشمل على الخصوص استحداث وكالة وطنية مستقلة لمكافحة الرشوة".

يظهر من كل ما سبق، أن مشاريع قوانين الفساد جاءت نتيجة لوفاء فخامة الرئيس بالتزامات انتخابية تعهد بها للشعب الموريتاني، ولم تأت بفعل ضغط أجنبي كما يروج لذلك بعض نواب المعارضة، ولعل أول ظهور للأجانب في مسار هذه القوانين كان من خلال حضور خبيرين أجنبيين استضافتهما اللجنة الفنية ليقدما لها بعض التجارب الدولية الناجحة في المجال للاستفادة منها في إعداد مسودات القوانين المذكورة.

أما بخصوص قول بعض النواب، بأن قانون التصريح بالممتلكات والمصالح، قد أمهل النواب ثلاث سنوات للتصريح بممتلكاتهم، فهو كذلك قول غير صحيح، فقد ورد في المادة 14 من القانون بإلزام المصرحين بتقديم تصريحاتهم في غضون شهرين من تولي الوظيفة أو تجديدها، وعند انتهاء المهام لسبب آخر غير الوفاة، وفي جميع الحالات كل ثلاث سنوات على الأقل.

صحيح أن الفقرة الثالثة من المادة 26 من الفصل التاسع المتعلق بأحكام انتقالية وختامية، قد جاء فيها: "يتخذ مجلس الوزراء والسلطة الوطنية لمكافحة الفساد التدابير اللازمة لضمان قيام جميع الموظفين المذكورين في المادة 3 بتقديم تصريحاتهم في أجل أقصاه ثلاث سنوات بعد نشر هذا القانون".

من المهم جدا التنبيه هنا إلى أن هذه الفقرة لا تخص النواب دون غيرهم، وهو ما حاول البعض أن يسوقه، وقد أضيفت هذه الفقرة نظرا لوجود هيئة تستقبل حاليا التصريحات، وهي لجنة الشفافية المالية للحياة العمومية، وستبقى كذلك حتى انتهاء الفترة الانتقالية التي يجب أن لا تتجاوز سنتين بعد تاريخ إصدار هذا القانون، نظرا لذلك، فقد جاءت هذه الأحكام الانتقالية، وذلك في انتظار أن يكتمل تشكيل السلطة الوطنية لمحاربة الفساد، فتُحَلُّ لجنة الشفافية المالية للحياة العمومية، وتوكل مهامها للسلطة الجديدة.  

بالمناسبة هذه قضايا ناقشتها اللجنة الفنية في مسودات مشاريع القوانين، وذلك قبل أن تحيلها للحكومة، وقبل أن تحيلها الحكومة للبرلمان، وبالتالي، فلا معنى للقول بأن النواب استثنوا أنفسهم من التصريح بالممتلكات لثلاث سنوات قادمة.

كان على نواب المعارضة أن يفتخروا بأن البرلمان الموريتاني في إنابته هذه، قد تمكن من إضافة النواب للائحة الموظفين الملزمين بالتصريح بالممتلكات والمصالح، وهو ما فشل فيه النواب في العام 2007، لما عرض عليهم مشروع القانون المتعلق بالشفافية المالية للحياة العمومية، والذي سيحمل فيما بعد القانون رقم 054/ 2007.

ختاما

لقد تابعتُ مسار هذه القوانين، منذ أن كانت تعهدات انتخابية في برنامج طموحي للوطن، إلى أن أصبحت قوانين مصادق عليها، ويمكنني أن أقول بأنها لم تأت لضغوط أجنبية، وإنما جاءت وفاءً بتعهدات انتخابية من رئيس الجمهورية.

إن النقاش يجب أن ينصب حاليا حول تنفيذ هذه القوانين، أما التشكيك في جودتها، وكونها لم تعد وفق أفضل الممارسات الدولية، أو أنها جاءت بضغط خارجي، فكل ذلك سيبقى مجرد حديث سياسي غير مؤسس.

إن واجب اللحظة، يقتضي منا جميعا، أن نوحد جهودنا في المعارضة والموالاة، حتى نضمن تنفيذ هذه القوانين على أحسن وجه.

حفظ الله موريتانيا...

محمد الأمين الفاضل 

[email protected]

 

 

 

29. مايو 2025 - 9:16

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا