
لطالما كانت غزة، على مر التاريخ، "مقبرة للغزاة". لم تتمكن قوة، مهما بلغت جبروتها، من استعمارها أو التغلغل فيها بشكل كامل، ودائمًا ما كانت هذه الأرض تدفع الغزاة ثمنًا باهظًا. هذه الحقيقة التاريخية تتجدد اليوم على تخوم غزة، حيث تتكسر أحلام الكيان الغاصب على أسوارها، وتتساقط جنوده كالجرذان أمام صمود لا يلين. إن المتابع للمشهد الراهن يدرك جيدًا أن الكيان الغاصب، رغم كل ما يمتلكه من آلة عسكرية مدمرة، لم ولن يحقق أهدافه المعلنة. لم يتمكن من القضاء على حماس، ولم ينجح في استعادة أسراه بالقوة، بل على العكس، زادت خسائره وتعمقت أزماته الداخلية. لقد أثبتت المقاومة، بقيادة حماس، أنها قوة صلبة لا تعرف التراجع.
هذا الصمود ليس وليد الصدفة، بل هو نابع من عقيدة راسخة ومبدأ ديني محكم يؤصل "النصر أو الشهادة"، وهو الشعار الذي يجسد جوهر وجودهم ومقاومتهم. فالإسلام، دين الله تبارك وتعالى، يحرم على المسلم أن يولي دبره لأعدائه إلا بتحرف لقتال أو تحيز إلى فئة، وهي تكتيكات حربية مشروعة وليست هروبًا أو استسلامًا. هذا الفهم العميق للدين يمنح المقاومة قوة معنوية لا تُقهر، ويجعلها مستعدة لتقديم أقصى التضحيات دون تنازل عن المبادئ. إن حماس، بناءً على هذه العقيدة، لن تسلم رايتها، ولن تلقي سلاحها، ولن تتراجع قيد أنملة عن أهدافها المشروعة، وعلى رأسها إنهاء الاحتلال ورفع الحصار. لقد قدمت المقاومة تضحيات جسيمة، ولن تهدر دماء شهدائها بالتنازل عن مكتسبات الصمود، بل ستظل غزة سورًا حصينًا منيعًا ينغمس في رمالها الغزاة وينتحرون على أسوارها.
لقد أثبتت التجربة أن الأسرى الذين تحتجزهم المقاومة في غزة هم الورقة التفاوضية الوحيدة التي يمتلكها الكيان الغاصب. فمعاملة حماس لهؤلاء الأسرى تتم بأفضل حماية ممكنة، التزامًا بمبادئها وعقيدتها التي تشدد على الإحسان إلى الأسرى، وتقتدي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ضرب أروع الأمثلة في فدائهم وتبادلهم، بل وفدى أبا العاص بن الربيع، زوج ابنته زينب، بقلادة والدتها. ولذلك، فإن المخرج الوحيد من هذا المأزق الدموي هو صفقة تبادل للأسرى، صفقة تتيح لحماس إخراج الآلاف من أسرى فلسطين المؤبدين والمحكومين بأحكام عالية من سجون الكيان الغاصب، مقابل أسراها.
إذا كان لدى الكيان الغاصب ذرة من حكمة، فعليه أن يدرك أن استمرار الحرب لن يجلب له سوى المزيد من الخسائر في جنوده وأسراه، وتعميق صورته ككيان غاصب يقتل الأطفال ويدمر المدن، بينما تزداد عزلته الدولية. إن نتنياهو يدرك الآن أنه غارق في وحل لا يستطيع الخروج منه بسهولة، فالدخول والتغلغل الشامل داخل غزة لا يعرف كنه متاهاتها العميقة التي ستكون "مقبرة" لجنوده، وهو ما يدفعه إلى المماطلة على أمل انتزاع تنازلات. ولكن هذه المماطلة لن تُجدي نفعًا، فالكرة الآن في ملعب الكيان الغاصب. الطريق إلى وقف هذا النزيف، وإعادة أسراهم، يمر حتمًا عبر طاولة المفاوضات، والقبول بصفقة تنهي الحرب وتلبي شروط المقاومة. فغزة، كما كانت دائمًا، ستظل عصية على الغزاة، ولن يكون مصيرهم فيها إلا الهزيمة أو الموافقة على شروط تضع حدًا لاحتلالهم وعدوانهم.
النصر أو الاستشهاد