الحوار الوطني: ما ذا لو كان الخلاص يكْمن في إقامة الجمهورية الثالثة؟ / موسى حرمة الله

من المستغرب أن يكون الحديث، من المنظور المستقبلي، عن التحديات الوجودية التي تواجه بلادنا، غالبا ما يتخذ عند البعض، من مختلف المشارب والاتجاهات، نبرةً فاترة ومجامِلة، بل تصل أحيانا إلى حد اللامبالاة.

على العموم، هناك شعور باستقالة جماعية على خلفية من الاسْتكانة والتسليم للأمر الواقع على الرغم من صدور إنذارات متقطّعة من حين لآخر، سرعان ما تتلاشى في خضمّ الجمود السائد.

وبصرف النظر عن اللمسات التجميلية وغيرها من الإجراءات الترْقيعية (في نطاق سياسة التهدئة المؤقتة)، ظلت الدولة على مدى عقود عاجزة عن تسوية المشكلات العميقة التي ما فتئت مطروحة بحدة على البلاد. فكيف نتغلب على هذه المعضلات المعقّدة؟

رسم إطار قانوني دستوري

لما ذا هذا الركود، ولما تفتقر السلطات العمومية إلى الفاعلية والنجاعة؟ ما السر في هذه العرقلة؟ ما الذي يعوق الأمور لتسير على ما يُرام؟ عادة ما يقال إن تشخيص المشكلة يمثل نصف حلها. فما العمل إذن؟

1.    تحديد إطار قانوني دستوري لحصر وحل المشاكل العميقة العالقة على الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
2.    توفير الوسائل الملائمة بشكل توافقي لحل هذه المشاكل.
إلى حد الساعة، لم تدرك الأنظمة المتعاقبة تعقيد وخطورة القضايا المرتبطة بالتلاحم الاجتماعي والوحدة الوطنية. واقتصرت تدخلاتها على مجرد التسكين المؤقت للأزمات دون التصدّي لمسبّباتها العميقة التي توشك – إن لم يتم تداركها – أن تهدد وجود الدولة ذاتها.

إنها تدابير مرتجلة لم يتم التشاور بشأنها، ولم ينجم عنها سوى تفاقم الامتعاض والاستياء. ولا أدل على ذلك من:
-    منح تعويضات بشكل متسرّع ومرفوض بشدة لجبر الضرر الناتج عن الإرث الإنساني؛
-    إصدار قانون لمكافحة مخلفات الرق دون تأثير يذكر على الواقع المَعيش بغية استئصال ظاهرة اجتماعية مزمنة.
والواقع أن هذه الإجراءات بدل أن تطمئن النفوس والقلوب قد زادت من حدة التوتّر والاضطراب.   
  
ذلك أن من المشاكل الوجودية في المجتمع ما لا يمكن حله عن طريق القوانين والنظم والتسويات الظرفية، ناهيك عن الوسائل القسْرية (السجن) أو التهديدات. التدابير الدستورية التوافقية هي وحدها الكفيلة بفتح صفحة جديدة في مناخ أخوي من التسامح، والوئام، والتعايش السلمي والتضامن. ومتى ما تمت إقامة هذا الإطار الدستوري، يكون من الطبيعي أن تُحدَّد أبعاده عن طريق القوانين العضوية، والقوانين العادية، والنظم التشريعية بواسطة تأهيل الجمعية الوطنية والتنظيمات المستقلة المخوّلة حصرا للسلطة التنفيذية. 

المشاكل الوجودية ينبغي أن تجد حلا ضمن الدستور

لهذا الغرض، يلزم بادئ ذي بدء تصنيف المشاكل العالقة لتمييز المشاكل الوجودية التي يتحتم تجد حلا في نطاق الدستور. فما هي تلك المشاكل؟
1.    مشروع مجتمعي جديد
من الملح بناء مشروع مجتمعي جديد على أساس تقاسم دستوري للسلطة بين مختلف المكونات الوطنية. تقاسم عادل ودائم يترتب عليه توزيع أكثر إنصافا لثروة البلاد على كافة المواطنين.

2.    الجرائم التي لا تسقط بالتقادم: الجنايات، العنف، التمييز على أساس عرقي:
•    مخلفات الرق؛
•    أعمال العنف ذات الطابع العرقي؛
•    الإرهاب بكافة أشكاله؛
•    المساس باللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية؛
•    الانقلابات ومحاولات السيطرة على مقاليد الحكم بالقوة.
3.    الجرائم الاقتصادية والمالية:
•    الرشوة المتفشية؛
•    اختلاس المال العام.
4.    إعادة تشكيل السلطة القضائية: من نافلة القول إن القضاء عندنا في وضع سيّئ للغاية. ويلزم في الدستور الجديد أن يعوض عنوان "السلطة القضائية" بـ "النظام القضائي".
5.    إنشاء هيئة دستورية مستقلة تتولى تنظيم الانتخابات والإشراف عليها بحيث يستمد هذا الكيان قوته واستقلاليته من الدستور، على أن يبيّن قانون عضوي صلاحيات هذه الهيئة، وتشكيلتها، وطريقة سيرها.
6.    يتعيّن أن تُرفع الهيئة الوطنية للزكاة إلى مصافّ المؤسسات الدستورية. ويشكل ذلك أولوية وطنية. ومن شأن الانطلاق الفعلي لمؤسسة الزكاة، برأي الكثير من الخبراء، أن يمكّن من تحصيل مئات المليارات من الأوقية. وهو مصدر ضخم من المداخيل سياسهم في امتصاص الفقر من أسفل الهرم المجتمعي.
7.    الوضع الجنائي لرئيس الجمهورية:
أثار مفهوم "الخيانة العظمى" (المادة 93) المقتبس من الدستور الفرنسي صعوبات في التأويل.
وتجادل فقهاء القانون في هذا الصدد بالعديد من الحجج المتناقضة. وبالفعل، تبدو هذه العبارة مطاطة وحمّالة أوجه. والحال أن وضع رئيس الجمهورية ينبغي أن يكون واضحا ومحدد المعالم.
في فرنسا، تبيّن مع الزمن هذا الغموض والنتائج التي قد تترتب عليه. لذا أوضح المشرع الفرنسي (عبر القانون الدستوري الصادر في 23 فبراير 2007) الوضعَ الجنائي لرئيس الجمهورية. فتم إلغاء جريمة الخيانة العظمى واستُبدلت بمسطرة العزل (المادة 68) في حالة "الإخلال بواجبات رئيس الدولة بصورة لا تتناسب مع ممارسة مهامه".
وللخروج من اللبس الماثل في المادة 93، يمكن الاستئناس في الدستور الجديد بالدستور الفرنسي على النحو الوارد أعلاه.
في فرنسا، "يحق للبرلمان المُلْتَئِم بكامله على شكل محكمة سامية أن يعلن خلع الرئيس بتصويت أغلبية الثلثيْن. ويترأس المحكمةَ السامية رئيسُ الجمعية الوطنية. ولا تبتّ المحكمة السامية في التجريم الجنائي للرئيس ولكن في المشروعية السياسية لاستمراره في مزاولة وظائفه. ويكون لقرار عزل الرئيس أثر فوْري". 
8.    يلزم تقليص عدد الأحزاب السياسية دستوريا إلى عشرة، اعتمادا على توجّهاتها في رسم مشروع المجتمع الذي تريده. وقد ينشأ عن تجميع الأحزاب السياسية في كتلتين أو ثلاث حسب انتماءاتها، تحالفاتٌ سواء على مستوى البرلمان أو على مستوى المجالس الجهوية المستقلة.
ومن المفروض أن يتم تجميع الأحزاب السياسية في إطار أيديولوجي واضح:
•    اشتراكي
•    ليبرالي
•    إسلامي
•    قومي
•    بيئي.
ومن شان إعادة تشكيل المشهد السياسي الوطني أن يسمح في النهائية بإرساء التناوب على السلطة.
9.    ينبغي في الدستور الجديد إعادة كتابة المادة 38 من القانون الأساسي القديم الذي يمكن تأويله خطأ كإمكانية تتيح للرئيس أن يستفتي الشعب تقريبا في كل موضوع. فاللجوء إلى الاستفتاء يجب أن يكون مقيّدا بصرامة ولا يمكن إجراؤه إلا طبقا للأحكام الدستورية التي تنظمه.
10.    العودة إلى نظام الغرفتين في البرلمان.

مشاكل اقتصادية واجتماعية مزمنة يلزم معالجتها بالقوانين والنظم

بإمكان المشتركين في الحوار الوطني المرتقب أن يقدموا في قراراتهم مقترحات لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين. ويمكن تجسيد هذه الحلول من خلال القوانين واللوائح التنظيمية. ويتعلق الأمر بمشاكل مزمنة تتجه نحو التأزّم باطّراد ويمكن أن تنجم عنها عواقب وخيمة على استقرار الدولة. ولضيق الوقت والحيّز المكاني، نخلصها بإيجاز في: في الصحة، والتعليم، والقدرة الشرائية للمواطن، والأمن الغذائي، وإعادة هيكلة الإدارة وترشيد مردوديتها، وإحداث تقطيع ترابي جديد تتجمّع فيه الولايات حسب أقطاب اقتصادية وإنشاء ولايات مستقلة، وحماية البيئة، ومكافحة تزوير الأدوية وترويج المؤثرات العقلية، والتصدي للهجرة السرية، وتعزيز الوسائل الدفاعية للجيش الوطني.

وإثر عقود من الإحباط والحرمان والعسْف، سيشعر الموريتانيون بحلول الجمهورية الثالثة أن الأمور تتحسّن وأن عهد الوعود العُرْقوبية قد ولّى إلى غير رجعة.

وبهذا يكون الرئيس، بوصفه رجلا ديمقراطيا، قد اختطّ للبلاد نهجا جديدا تتم فيه معاملة كافة الإثنيات الوطنية على قدم المساواة بعدالة وإنصاف.

ولا ريب أن تعديل الدستور سيكون له لا محالة وقعٌ هائل نفسيا وسياسيا على الرأي العام. ذلك أنه سيُحدث هزة منقذة ستوقظ من السُّبات الراهن وتفتح آفاقا واعدة لتحقيق الحلم المنشود.

وبذلك نطوي صفحة ماضٍ بائد، لا سيما وأن تضافر العديد من العوامل السياسية، والاقتصادية، والديمغرافية، والثقافية، والاجتماعية، ستغيّر بعمق الساحة السياسية الوطنية. لذا فإن من الوَهْم الاستمرار في تسيير البلاد بأساليب تعود إلى منتصف القرن الماضي.

وإذا ما تم إقرار فكرة هذا التغيير للنظام، فبمقدورنا أن نُعِدّ عند الاقتضاء مشروعا لمسودة دستور جديد لمن يهمه الأمر.
وإذا استطاع الحوار الوطني المرتقب أن يرفع هذا التحدي نكون قد أنقذنا موريتانيا من التشرْذم والفوضى. وبالمقابل، إذا أخفقت المهمة، أي إذا لم تكن مخرجات الحوار قابلة للتطبيق ومُجْمعا عليها، فمعنى ذلك أنه حوار عقيم وغير ذي جدوى.

بيْد أن الإخفاق المحتمل لن يكون المنسق مسؤولا عنه لما يتمتّع به من خصال ذاتية أبرزها مقدرته الفائقة على التفاوض، بل ستكون المسؤولية ناجمة حصرا عن غياب الإرادة السياسية.

موسى حرمة الله
أستاذ جامعي
حائز على جائزة شنقيط

 

 

31. مايو 2025 - 11:31

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا