مقالات الملحدين (3) / سعدن ولد أحمدو ولد حمّـَينّ

altالمقالة الثالثة: "لا حاجة لبعث الرسل".

ينطلق ابن الراوي ومن نحى نحوه من الملحدين ومنكري النبوات من فكرة مفادها أن الله تبارك وتعالى خص الإنسان بأن جعله كائنا عاقلا وأودع عقله قوة يستطيع بها معرفة جميع المدركات.

وعليه فبما أن جميع العقلاء اتفقوا على أن العقل بإمكانه إدراك ما ورائياتٍ كثيرةٍ، فلا حاجة إذن لأن يبعث شخص يدعي أنه الناطق باسم الغيب، ويحتكر الاطلاع على الأمور غير الحسية.

فكل ما أتى به هذا المدعي (النبي) إما أن يكون موافقا للمعقول، وحينئذ لم يأت بجديد، لأن عقل  إنسان آخر قد يأتي بمثل ذلك، بل وبأقوى منه أحيانا.

وإما أن يكون مخالفا للمعقول، وعندئذٍ فلا إلزام بما أتى به، ولا التفات إلى قوله.

وإذ قد ألمحت في المقال الأول إلى تهافت دعوى إدراك العقل لكل حقائق الأشياء بنوع من الإجمال، فسأحاول هنا  إثبات  الحاجة الضرورية لإبعاث الرسل عليهم السلام، بما تيسر لي من أدلة على ذلك بحول الله.

يقول ابن الراوندي: "إن البراهمة يقولون إنه قد ثبت عندنا وعند خصومنا  أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه، وإنه هو الذي يعرف به الرب ونعمه من أجله صح الأمر والنهي والترغيب والترهيب.

فإن كان الرسول يأتي مؤكدا لما فيه من التحسين والتقبيح، والإيجاب والحظر فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته، إذ قد غنينا بما في العقل عنه؛ والإرسال على هذا الوجه خطأ.

وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق والحظر فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنبوته"[1].

وعلى هذا النحو مشى خلفـُه أبو بكر الرازي[2].

 

لن أخوض هنا في الإلزامات التي ألزم بها ابن الريوندي المعتزلة ومن نحى نحوهم في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين، فليس ذلك قصدي، وإن كان علماء المعتزلة رحمهم الله قد أجابوا بحسب أصولهم عن تلك الإلزامات بأجوبة أقوى وأدق حجة من شبه ابن الريوندي.

وسأقتصر فقط على النقطة التي تهمني من هذا القول وهي أنه ما دام العقل باستطاعته درك أمور ميتافيزيقية كثيرة، فما الحاجة إذن إلى إرسال رسول يحتكر الإخبار عن الغيب، ويكلف الناس بطقوس لا مبرر لها عقلا؟.

دفعني البحث عن جواب هذا السؤال إلى مقارنة بين هذه الفكرة وما انتهجه الملحدون من الفلاسفة الماديين في مطلع الثورة الصناعية الحديثة.

فقد نظر ألئك إلى الدين باعتباره نوعا من التطور المعرفي للإنسان، فالحاجة الملحة لمعرفة أسرار الأشياء وحقائقها تدفع الإنسان أحيانا إلى إيجاد تفسيرات آنية عن الأسئلة الكثيرة التي تفرض نفسها من خلال سبر أغوار الحياة، فيقتنع بمسائل قد لا تكون هي الجواب الفصل في الموضوع، غير أنه لم يجد بعد جوابا نهائيا.

ولا يخرج الدين عن كونه محاولة من الإنسان للتسليم بعجزه عن إدراك بعض الأشياء، فيَكِلَها إلى قوة خارجة عن قدراته المادية المتاحة.

وعلى هذا الأساس فبما أن الحياة متطورة دائما، والمعارف الإنسانية هي الأخرى في تطور مستمر، فقد أوجدت المعرفة الإنسانية الحديثة طريقة بحث ودراسة أثبتت بطلان الدين وعدم صحة نتائجه.

ولا مانع بعد ذلك في ظل التطور المعرفي للإنسان من التوصل إلى طرق أخرى في البحث والدراسة تغير أنماط الفلسفة المتبعة بما فيها الدين، وسيبقى هذا التغير في المعارف مستمرا إلى الأبد.

فالحاصل من هذا أن الدين شيء لا حقيقة له، وإنما هو مظهر من مظاهر الغريزة الإنسانية الباحثة عن حقائق الكون.

و كما يقول هؤلاء، فرغم استحسان هذه الغريزة المحبة للاطلاع، إلا أنها نتيجة لمحدودية الوسائل دفعت بالأوائلنا إلى تقديم إجابات عن الكون غير صحيحة البتة تمثلت في اقتناعهم بالدين وفكرة الإله[3].

وعلى هذا يقرر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أغست كونت (1857م) أن تاريخ تطور الفكر الإنساني ينقسم إلى مراحل ثلاث:

الأولى: المرحلة اللاهوتية: وهي التي فسرت الأحداث فيها باسم الله.

الثانية: المرحلة الميتافزيقية: وفيها فسر الإنسان الأحداث باسم عناصر خارجية، لا يعلمها، ولكنه لا يذكر اسم الإله.

الثالثة: المرحلة الوضعية: التي أخذ الإنسان يفسر فيها الأحداث باعتبارها عناصر خاضعة لقوانين عامة، يمكن إدراكها بالمطالعة أو بالمشاهدة العلمية. وفي هذه المرحلة لا تذكر الأرواح والآلهة والقوى المطلقة.

فنحن ـ على هذا القول ـ نعيش المرحلة الثالثة التي سميت في الفلسفة الحديثة بنظرية "الوضعية المنطقية"، أو التجريبية العلمية[4].

وبشكل عام يرد وحيد الدين خان رحمه الله فكرة معارضي الدين إلى أسس ثلاث:

الأساس الأول: الكون مرتبط بقوانين ثابتة تتحرك في نطاقها الأجرام السماوية، وعلى هذا بنى "نيوتن" نظريته في التطور.

الأساس الثاني: الدين نتاج اللاشعور الإنساني، وليس انكشافا لواقع خارجي.

يقول أحد علماء النفس: ليس الإله سوى انعكاس للشخصية الإنسانية على شاشة الكون، وما عقيدة الدنيا والآخرة إلا صورة مثالية للأماني الإنسانية، وما الوحي والإلهام إلا إظهار غير عادي لأساطير الأطفال المكبوتة.

الأساس الثالث: إن العقائد الدينية وجدت لأسباب تاريخية أحاطت بالإنسان، فلم يكن باستطاعته أن يفلت من السيول والأعاصير ..الخ، فأوجد "قوى فرضية" يستغيثها لتنقذه من البلايا النازلة. وهكذا ظهرت الحاجة إلى شيء يجمع الناس حوله، ولا يتفرقون، فاستغل اسم "الإله" الذي تفوق قوته قوة الإنسان، ويهرع الإنسان إلى رضاه[5].

هذا حاصل قول ملاحدة الماديين في الموضوع، فهم يفسرون الظاهرة الدينية انطلاقا من هذه الأسس، ولا يخفى ما في ذلك من الإجحاف وعدم الإنصاف.

ولن أتناول هنا الأساسين: الأول، والثالث، لأن له موضعا آخر غير هذا، وسأكتفي بالأساس الثاني الذي له علاقة بموضوعنا.

وسأحصر تناوله بشكل أساس في ما له علاقة بإثبات النبوة، وبيان أنها مخالفة لما توهموا، وتبقى مسألة النار، والجنة، والآخرة بشكل عام، لأنها فرع عن إثبات النبوة، فما إن يثبت إرسال رسول صادق أمين، حتى تثبت مسائل الآخرة بالضرورة، ولا معنى لمن يتجاز الأدلة، ويقول اثبت لي الحكمة من الصلاة عقلا، وهو لم يسلم بعد بإرسال الرسول مثبت الصلاة. فهذا لعمري نوع من المغالطات عجيب.

يتفق الفريقان في القول بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل وبعثهم، وإن اختلفوا في الطريقة الموصلة إلى ذلك.

فابن الراوندي بنى موقفه كما تبين على عدم الحاجة إلى النبي لأن العقل كفيل بإيصال الإنسان إلى الحقيقة.

و "اللاشعوريون" بنوا موقفهم على تفسير النبوة تفسيرا نفسيا يرجع إلى طبيعة الإنسان ليخلصوا إلى أن ما أمكن تصور وجوده علميا من خلال التجربة، فلا حاجة إلى إثباته بطريق أخرى، ويبقى مدعي ذلك في إطار الهذيان الذي يحصل للمجنون والمعتوه. وأطلقوا على تلك الحالة "اللاشعور"، فهو ينتاب الإنسان بعد أن مرت به ظروف جعلته يخرج ما تخزن في ذاكرته "اللاشعور" إلى بؤرة الاهتمام "الشعور".

والسبب الذي دفع الفريقين إلى هذا الموقف، هو أنهم لم يعرفوا بعد مهمة الرسل ولا الهدف من إرسالهم. وفسروا حقيقة النبوة انطلاقا مما شاهدوه واقعا، أو توهموا وجوده عقلا.

فقد ذهب أصحاب "الشعور" و"اللاشعور" إلى قياس الحالة الشعورية للأنبياء على الحالة الشعورية للإنسان العادي، وعلى هذا فسيصلون حتما إلى نفس النتيجة.

لكن هذا القياس ـ كما عبر عنه وحيد الدين خان رحمه الله ـ قياس مع الفارق، وهو دليل لا وزن له منطقيا.

ويضرب لذلك مثالا: فلو افترضنا أن رجلا يسير في الشارع أخذ يهذي بكلام غريب نتيجة لأفكار مخزنة في ذهنه، فهل يمكن أن نستغل هذا الحادث في البحث في كلام الأنبياء الذي يكشف سر الكون؟

ومع أن هذا الاستدلال غير علمي، فإن صاحبه يفتقر كذلك إلى القيم حتى يستطيع التفرقة بين كلام الرجل العادي وكلام الأنبياء، فلا يدعي عند ذلك أن الهذيان الذي يقع للرجل العادي هو المسؤول عما جاء به الدين.

فالقيم تتغير ذاتيا بتغير الأوضاع، ومن الخطأ الظن بأنها لا توجد إلا عند أصحاب الفكر الحديث.

أضف إلى ذلك أن "اللاشعور" الإنساني من المستحيل أن يختزن حقائق لم تمر عليه، بل هو محصور فيما مر به الإنسان طيلة حياته، كما هو معروف من الناحية العلمية[6].

والنبي بما أنه يخبر بحقائق أثبتت التجربة والعقل صحتها، وهي لم تمر به في حياته، فمن غير العقول أن يعتبر ذلك مظهرا من مظاهر "اللاشعور".

واعلم أنه من الخطأ بمكان أن نفسر جميع الظواهر انطلاقا من تلك الأسس الثلاث التي اتخذها ملاحدة الماديين أصلا لكل شيء (ـ التطور، ـ النفس، ـ التاريخ والاجتماع) هذه الأسس وإن كانت تنفع في تفسير بعض المظاهر المعينة، إلا أنها لا تصلح أن تكون معيارا لكل الظواهر والتغيرات.

فبما أن بعض مختصات أحد هذه الأسس لا يمكن تفسيرها انطلاقا من الأس الثاني، فمن باب أولى ما لا علاقة له من حيث النشأة بالأسس جميعا أصلا.

كما أنه من الخطأ كذلك ـ كما مر في المقال الأول ـ تفسير جميع المظاهر تفسيرا عقليا وإلا بأن لم تكن عقليا فلا معنى لها.

وكما أن الأعمى إن أنكر وجود شيء لم يره بعينه، لم يلتفت إليه، فكذلك من أنكر معلومات خارجة عن هذه هذه المعايير لم يلتفت إليه.

 

يبين الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله مراتب الإدراكات وتطورها مع الإنسان منذ ولادته بتطور وسائلها.

فأول ما يخلق مع الإنسان: حاسة اللمس، ليدرك بها متعلقاتها كالحرارة والبرودة..الخ. ثم تخلق بعد ذلك حاسة البصر، ثم السمع،  ثم الذوق، ثم العقل الذي به يدرك الإنسان الواجبات والجائزات والمستحيلات، وأمورا لا توجد في الأطوار التي قبله[7].

ولا تقتصر الإدراكات على هذه الوسائل فقط، بل هناك طريق أخرى أعلى مرتبة من العقل يدرك بها الإنسان أمورا غيبية ماورائية، "العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز"[8].

ومنكرو النبوة أنكروا هذا الطور من الإدراكات لأنهم لم يبلغوه ولم يوجد في حقهم، فظنوا أنه غير موجود في نفسه، وهذا ليس دليلا في حد ذاته، لأن عدم العلم بالشيء لا يقتضي نفيه.

لكن المنصف لا ينفي هذا النوع من الإدراكات، لأن النائم قد يطلع على أمور غيبية، ولم يحصل ذلك له عن طريق الحواس ولا العقل، فدل هذا على وجود أمور غيبية تتطلع النفس إلى معرفتها. ومعارف يمكن إدراكها بطريق مختلفة.

يصوغ الإمام الغزالي دليل إمكان النبوة ووجودها والحاجة إليها قائلا: "دليل إمكانها وجودها، ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل ... ولا تدرك إلا بإلهام وتوفيق من جهة الله تعالى ولا سبيل إليها بالتجربة.. فتبين بهذا .. أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل، وهو المراد بالنبوة، لا أن النبوة عبارة عنها فقط، بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة، ولها خواص كثيرة سواها"[9].

إن حاجة الإنسان الماسة إلى معرفة تلك الأمور الغيبية، الخارجة عن مدارك العقول، ومعرفة أسرار تلك المعارف وطرق تحصيلها هي السبب الأساس في بعثة الرسل عليهم السلام.

فإذا كانت الحواس لإدراك المحسوسات، والعقول لإدراك المعقولات، فإن إرسال الرسل هو لإدراك المغيبات، وجمع المعارف، ومعرفة علاقة تلك المعارف بعضها ببعض.

وفوق كل هذا تبيين الطريق الصحيحة التي ينبغي على الإنسان اتباعها لتحصيل العلم اليقيني الذي لا يدع مجالا للشك.

 

 

 

 

[1] ـ من تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص: 71

[2] ـ انظر نفس المرجع، ص: 165 وما بعدها.

[3] ـ انظر كتاب: الإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان، رحمه الله، تعريب د / ظفر الدين خان، تحقيق: د / عبد الصبور شاهين،  ط: مكتبة الرسالة، ص: 10.

[4] ـ انظر: نفس المرجع، ونفس الصفحة.

[5] ـ كتاب: الإسلام يتحدى، ص: 12 ـ 14.

[6]  ـ نفسه، ص: 24.

[7] ـ انظر: المنقذ من الضلال، تحقيق: د/ جميل صليبا، و د/ كامل عياد، ط: 7 دار الأندلس ـ بيروت ـ لبنان 1967م، ص: 110 ـ 111.

[8] ـ نفسه، ص: 111.

[9]  ـ المنقذ من الضلال، ص: 112.

31. يناير 2014 - 22:15

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا