
تابعتُ النقاش الدائر حاليا، حول غياب الوزير الأول وحكومته عن صلاة العيد في الجامع القديم (ابن عباس)، والحقيقة أن هذا النقاش لا يتعلق في جوهره بغياب أو حضور الوزير الأول لصلاة العيد، بقدر ما يخفي في حقيقة أمره فشلا سياسيا لدى المعارضة، وفشلا إعلاميا لدى الأغلبية، ولولا هذا الفشل المزدوج في الفسطاطين لما دار هذا النقاش أصلا.
غاب الوزير الأول عن صلاة العيد في الجامع القديم فأثار غيابه نقاشا واسعا، ومن المؤكد أنه لو حضر لصلاة العيد لأثار حضوره نقاشا أوسع، ولذا فالمسألة لا تتعلق أصلا بحضور الوزير الأول أو غيابه، وإنما تتعلق في جوهرها بفشل سياسي لدى المعارضة لا يريد مدونوها أن يتحدثوا عنه، وفشل إعلامي لدى الأغلبية جعل مدونوها يقعون دائما في أي فخ ينصبه لهم مدونو المعارضة.
سيتحدث هذا المقال وبشكل سريع عن الفشل السياسي للمعارضة، وعن الفشل الإعلامي للأغلبية، أي عن الفشل المزدوج الذي تسبب في إثارة النقاش الدائر حول صلاة العيد، والذي لا شك أنه سيتسبب مستقبلا في نقاشات أخرى مماثلة، قد لا تنتظر مناسبة مقنعة لكي تنفجر من جديد.
عن الفشل السياسي للمعارضة
الحديث عن الفشل السياسي للمعارضة حديث يطول، سأترك التفصيل فيه لكتابي الثاني من سلسلة كتب الإصلاح في موريتانيا، والذي سيتضمن وصفة طبية لعلاج الحالة المرضية التي تعاني منها المعارضة منذ عقود، ولكن قبل ذلك، سأكتفي في هذا المقام بالتذكير بأننا في "نداء 4 دجمبر" طرحنا على قادة المعارضة فكرة المرشح التوافقي، وأني في العام 2017 اشتغلتُ كثيرا على ملف رئاسيات 2019، فنشرتُ في تلك الفترة سلسلة من المقالات تحت عنوان: "حتى لا نضيع فرصة 2019"، وكان من أهم ما خَرجتْ به تلك السلسلة من المقالات أن المعارضة لن تشكل منافسا جديا للنظام في تلك الانتخابات، إلا إذا أخذت بجملة من الإجراءات التحضيرية، يمكن إجمالها إذا ما أعيد تفصيلها على مقاس رئاسيات 2029، في النقاط التالية:
1ـ أن تبدأ مبكرا في التحضير الفعلي لانتخابات 2029، وأي تحضير لا يبدأ عمليا من العام 2026 على أبعد تقدير، لن يدخل في خانة التحضير المبكر؛
2ـ يمكن لذلك التحضير أن يبدأ بتشكيل لجنة عليا تضم كل التشكيلات الوازنة في المعارضة لصياغة البرنامج الانتخابي للمرشح التوافقي لها في رئاسيات 2029، وقد يُكتفى في هذا الإطار بإعلان مبادئ عامة أو عناوين كبرى لذلك البرنامج؛
3ـ أن يوكل لتلك اللجنة مهمة تحديد الصفات أو المواصفات التي يجب أن تتوفر في المرشح التوافقي للمعارضة؛
4 ـ بعد تحديد الصفات أو المواصفات المطلوبة في الترشح تبدأ اللجنة المشكلة من طرف المعارضة في استقبال ملفات المعارضين الراغبين في الترشح، وذلك لتختار من بينهم من تتوفر فيه أغلب صفات المرشح التوافقي المحددة سلفا ليكون هو المرشح التوافقي للمعارضة، أو على الأقل مرشحها الرئيسي الذي تلتف حوله أغلب الأحزاب والتشكيلات السياسية المعارضة، على أن تتقاسم بقية التشكيلات المعارضة الوازنة، والتي لم تحظ بتسمية المرشح التوافقي منها، رئاسة البرلمان والوزارة الأولى وغير ذلك من المناصب السامية التي تتغير مع تغير النظام، هذا إذا لم يُشترط في المرشح التوافقي أن يكون شخصية مستقلة من خارج أحزاب المعارضة؛
5 ـ لا بأس بوجود مرشحين ثانويين محسوبين على المعارضة، ويمكن لمن لم يقبل ملفه أن يترشح، ولكن بصفته مرشحا ثانويا يعتمد على قدراته وإمكانياته الشخصية لا على أحزاب المعارضة في تحصيل الأصوات.
في اعتقادي الشخصي أن المعارضة الموريتانية إذا لم تُكمل هذه الإجراءات التحضيرية، وتبدأ في حملتها الانتخابية قبل نهاية العام 2026، فسيعني ذلك أنها لم تضبط ساعتها بشكل جيد على موعد استحقاقات 2029، وأنها لم توجه بوصلتها في الاتجاه الصحيح نحو تلك الاستحقاقات، وأنها خاسرة لا محالة في تلك الانتخابات كما خسرت من قبل في انتخابات: 2024، 2019، 2014، 2009، 2007..إلخ.
بالطبع ستبرر المعارضة فشلها في تلك الاستحقاقات، وكما جرت بذلك العادة، بالقول بتزوير الانتخابات، ثم ستعترف لاحقا وعمليا بالنتائج دون إعلان ذلك، قبل أن تشارك في استحقاقات 2034 دون أي تحضير، لتتكرر قصة فشلها من جديد. تعيد المعارضة في كل استحقاقات نفس أساليبها القديمة، وربما بطريقة أكثر سوءا من المرات السابقة، ومع ذلك تتوقع نتائج مختلفة!
الملاحظ أن المعارضة الموريتانية تعاني اليوم من انقسام لم تعرفه في كل فتراتها السابقة، وأنها تمر بفترة تخبط وغياب للرؤية لم تعرفهما من قبل، وهو ما يعني أن الفشل الذي ينتظرها في استحقاقات 2029 قد يكون فشلا غير مسبوق. والمفارقة أن كُتاب المعارضة ومدونيها بدلا من أن يوجهوها وينيروا لها الطريق للعبور إلى العام 2029 انشغلوا بما يصفونه بصراع الأجنحة داخل النظام، وبالبحث عن مرشح النظام في رئاسيات 2029، وقد تمكنوا ـ وهذه تُحسب لهم ـ أن يجروا كتاب النظام ومدونيه إلى هذا النقاش العقيم الذي يضر النظام، ولا ينفع المعارضة.
وعلى النقيض من ذلك، فإذا كان المطلوب من المعارضة هو التحضير المبكر للانتخابات الرئاسية في العام 2029، فإن المطلوب من الأغلبية هو عكس ذلك تماما، أي تأجيل الحديث عن استحقاقات 2029 إلى آخر سنة من المأمورية.
ولأن كتاب النظام ومدونيه يعانون من فشل إعلامي كبير، ولأنهم بلا خطة إعلامية، فإنهم يقعون دائما في أي فخ إعلامي ينصب لهم ـ عن قصد أو عن غير قصد ـ من طرف كتاب ومدوني المعارضة، فمن المعروف أن من لا يمتلك خطة، إعلامية كانت أو غير إعلامية، سيكون في النهاية جزءا من خطط الآخرين، ولذا فإن جل الكتاب والمدونين المحسوبين على النظام، انشغلوا في أيام العيد بالحديث عن غياب الحكومة عن صلاة العيد، وعن صراع الأجنحة داخلها، بل وعن المرشح أو المرشحين المفترضين للنظام في استحقاقات 2029.
إن حديثا كهذا لا يخدم النظام، ولا يخدم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، فالسياسة ـ وكما قلتُ سابقا ـ تقوم أساسا على خلق الآمل لدى المواطن، ومن يتحدث الآن عن المرشح المفترض للنظام في العام 2029 ، إنما يُريد أن يقول سياسيا بأنه لا إنجازات تحققت يمكن أن نتحدث عنها، ولا إنجازات تُنتظر، ولذا فإنه علينا أن ننشغل من الآن فصاعدا بالبحث عن مرشح الرئيس وخليفته القادم.
إن انخراط كتاب ومدوني الأغلبية في نقاش كهذا، لا يخدم ـ بكل تأكيد ـ النظام، وأي حديث عن استحقاقات 2029 في فسطاط الأغلبية يجب أن يؤجل ـ وفي أعجل تقديرـ إلى آخر عام من المأمورية الحالية.
لا خلاف على أن 2029 لن تكون مثل 2019 على مستوى الأغلبية الحاكمة، فالفوارق كبيرة بين السنتين، ففي العام 2019 كان مرشح النظام الحاكم حينها شبه معروف للجميع، وكان محل إجماع داخل الأغلبية، بل كان هناك من المعارضة من هو على استعداد لدعمه إن ترشح، وهو ما تأكد بالفعل بعد ذلك عندما أعلن عن ترشحه.
كان هناك بالفعل شبه إجماع داخل الأغلبية في عهد الرئيس السابق، يؤازره مزاج طيف كبير في المعارضة، على المرشح المفترض للنظام في العام 2019، ومن المؤكد أن ذلك الإجماع على من هو جدير بأن يكون مرشح النظام في العام 2019، قد لا يكون قائما في الوقت الحالي، ذلك أن الشخصية الثانية في النظام الحالي، لم تبرز بنفس الوضوح، الذي برزت به في العام 2019.
كل ذلك صحيح، وهذا هو ما جعل الكثير من كتاب ومدوني النظام يقع في أي فخ يُنْصَب له في هذا المجال من طرف أي معارض، يُقدِّمُ هذا الاسم أو ذاك بصفته هو المرشح المحتمل للنظام في العام 2029.
من هنا أصبح بعض المعارضين يستغل أي حركة للوزير الأول أو لغيره من أركان النظام، لفتح نقاش مفتعل حول مرشح النظام في العام 2029، فلو أن الوزير الأول حضر صلاة العيد في مسجد ابن عباس مصحوبا بالوزراء لقيل إن ذلك يدخل في إطار سعيه ليكون مرشح النظام في العام 2029، وإن هو تغيب عنها كما حصل، لقيل ـ كما قيل بالفعل ـ إن ذلك التغيب دليل على إبعاده من دائرة الترشح في العام 2029.
إن حضور الوزير الأول لصلاة العيد في الجامع القديم لا يزيد من حظوظ ترشيحه لرئاسيات 2029، وإن غيابه عنها لا ينقص من تلك الحظوظ، فالترشيح من طرف النظام لا يخضع لمثل هذه المعايير التي يضعها بعض المدونين لفتح نقاش حول الموضوع، لا يقدم ولا يؤخر، كما حصل في أيام العيد.
وبما أنني تحدثتُ في هذا المقال عن معايير الترشيح داخل المعارضة ( المرشح التوافقي)، فلا بأس بالحديث قليلا عن معايير الترشيح لدى النظام، لأبين أنها تختلف تماما عن المعايير التي يضعها بعض المدونين الذين يثيرون هذا الموضوع من حين لآخر، والذين قد يعتبرون حضور صلاة العيد أو الغياب عنها، معيارا من معايير الترشيح لرئاسيات 2029. إن المعايير التي سيحدد على أساسها مرشح النظام في العام 2029، وكما تظهر لي في الوقت الحالي، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1 ـ أن يكون المرشح المتوقع قد كسب ثقة رئيس الجمهورية في الماضي، وأن يعزز تلك الثقة في هذه المأمورية، فرئيس الجمهورية هو من سيحدد مرشح النظام في العام 2029، ولذا فكل عمل يقوم به أي شخص من الدائرة الضيقة في النظام لتعزيز تلك الثقة فهو سيقربه أكثر من الترشيح، وكل عمل يشوش أو يهز تلك الثقة فسيبعد صاحبه ـ وبشكل تلقائي ـ عن الترشيح؛
2 ـ شرعية الإنجاز وتأدية المهام على أحسن وجه، فمن يؤدي مهامه الحالية من أركان النظام على أحسن وجه، فسيكون احتمال ترشيحه هو الأقوى، والعكس صحيح؛
3 ـ كسب ثقة المواطن، أي الناخب، فأي شخص في الدائرة الضيقة من النظام يتمكن من تعزيز ثقة المواطن به، من خلال تأديته لعمله على أحسن وجه، ستكون حظوظه في الترشيح أكبر، فالرئيس سيختار من نظامه من سيكون تسويقه للمواطن (أي الناخب) أسهل؛
4 ـ صحيح أن الإجماع الذي كان يتمتع به مرشح النظام في العام 2019 داخل الأغلبية الحاكمة، وحتى خارجها، يستحيل أن يتكرر في العام 2029، ولكن مع ذلك فإن من يستطيع أن يخلق حوله إجماعا أكبر داخل أغلبية النظام وخارجها فستكون حظوظ ترشيح الرئيس له أكبر من حظوظ من يعمل على تفكيك الأغلبية من الداخل من خلال سياسة صراع الأحلاف.
في اعتقادي الشخصي أن من تحققت فيه هذه المعايير الأربع، أو تحقق فيه أغلبها، سيكون هو الأوفر حظا لأن يختاره الرئيس ليكون مرشح النظام في العام 2029.
وفي اعتقادي الشخصي أن كل من يرتكب من أركان النظام في الوقت الحالي خطأ التحدث عن استحقاقات 2029، أو يقوم بأي خطوة معلنة أو في الخفاء سعيا للترشح في العام 2029، أو يؤسس نواة حلف داخل الأغلبية لدعم ترشيحه، إن كل من يفعل أي شيء من ذلك، سيكون خارج دائرة الترشيح نهائيا، لأن أي خطوة من ذلك القبيل ستشكل إساءة للرئيس، وستهز من ثقته فيمن قام بها، وستبعد بالتالي من قام بها من لائحة خيارات الترشيح المحتملة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل