
تشهد الساحة الموريتانية من جديد حراكًا سياسيًا حول حوار وطني مرتقب، وسط آمال معلّقة على إمكانية أن يشكل منعرجًا حقيقيًا نحو التوافق والإصلاح. لكن هذه الآمال تصطدم بتاريخ طويل من الحوارات السابقة، التي كثيرًا ما انتهت إلى نتائج محدودة أو توافقات ظرفية، لا ترقى إلى مستوى التحولات الجذرية التي يطمح إليها الشارع.
لقد تحوّل الحوار الوطني، بمرور الزمن، إلى مصطلح مألوف في الخطاب السياسي المحلي، لكنه بات أيضًا مرتبطًا في ذهن كثيرين بـ”تكرار بلا أثر”، و”نقاشات لا تلامس جوهر الأزمات”.
تجارب الحوار… بين الشكل والمضمون
منذ عقود، شهدت موريتانيا جولات متعددة من الحوار السياسي، شاركت فيها أطراف من الأغلبية والمعارضة، وتطرقت إلى مواضيع تتعلق بالانتخابات، والحكم، والدستور، وحقوق الإنسان. غير أن غياب آليات تنفيذ فعالة، وضعف المتابعة، وافتقار الثقة المتبادلة، جعلت كثيرًا من تلك الحوارات تنتهي دون تأثير ملموس في الواقع السياسي أو المؤسسي.
ما يميّز اللحظة الراهنة هو تصاعد التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع الثقة الشعبية في الفاعلين السياسيين، ما يجعل أي حوار قادم مطالبًا بأن يكون مختلفًا في المنهج والمضمون.
أولوية الأولويات: ماذا نناقش؟
ينبغي أن ينطلق الحوار من تشخيص واقعي وشفاف للأزمات، بعيدًا عن المجاملات أو الحسابات الفئوية، مع التركيز على الأولويات التالية:
1. الإصلاح السياسي
يشكّل تطوير النظام الانتخابي، وتعزيز استقلالية القضاء، وترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات، مدخلًا ضروريًا لإعادة الاعتبار للعملية الديمقراطية، وضمان التداول السلمي الحقيقي على السلطة.
2. التحول الاقتصادي
رغم امتلاك موريتانيا ثروات طبيعية واعدة، لا يزال الاقتصاد هشًا، معتمدًا على الريع والمساعدات، ويعاني من الفساد وضعف التخطيط. المطلوب اليوم هو نموذج اقتصادي جديد يقوم على الإنتاج، وتحفيز الاستثمار، وتوزيع عادل للثروة.
3. العدالة الاجتماعية
يبقى التفاوت الطبقي، والتهميش، واستمرار مظاهر العبودية والتمييز، من أبرز العوائق أمام بناء دولة المواطنة. لذلك يجب أن يكون الإنصاف الاجتماعي جزءًا أساسيًا من أي اتفاق سياسي جاد، وليس مجرد بند هامشي.
الحوار المطلوب… لا الممكن
الحوار الوطني لا يجب أن يكون مجرد تمرين بروتوكولي أو وسيلة لتهدئة اللحظة، بل فرصة لتجديد العقد السياسي والاجتماعي في البلاد. ولا يمكن تحقيق ذلك دون مشاركة واسعة، وضمانات واضحة، وإرادة سياسية صادقة.
أما إذا بقي الحوار حبيس النخبة، يدور في فلك الحسابات الحزبية الضيقة، فلن يكون إلا نسخة جديدة من تجارب سابقة، لم تُثمر سوى مزيد من الإحباط.
خاتمة
إن موريتانيا اليوم في حاجة ماسّة إلى نقلة نوعية في الممارسة السياسية، وحوار وطني لا يُدار من فوق، بل يُبنى من القاعدة، يُصغى فيه لصوت المواطن، وتُوضع فيه المصلحة العامة فوق كل اعتبار.
فهل نحن أمام فرصة حقيقية لبداية جديدة؟ أم أننا نعيد فقط إنتاج نفس الخطاب… في زمنٍ تغيّر فيه كل شيء ما عدا أساليبنا في إدارة الخلاف؟
محمد الأمين الوافي
باريس – 22 يونيو 2025