المرحوم أحمد ولد الشيخ ولد جدو.. الذاكرة الحية للأمة / محمد علي الشريف

هناك رحيل لا يكفي فيه أن يفجع العائلات أو يمس دوائر ضيقة من المقربين؛ بل ثمة رحيل يقلب الذاكرة الحيّة لأمة، يوقف الكلام، ويتساءل عن الإرث. في هذا الشهر الحزين ، يونيو، انحنت موريتانيا بصمت أمام تحية الوداع الأخير لأحد أبنائها الأجلّاء، أحمد ولد الشيخ ولد جدو، ذلك الصرح المتواضع في الدبلوماسية، رجل الدولة ذي الهيأة الهادئة، المثقف العميق، الذي تجلت عظمته في اختفائه المتواضع.
نعيش هذه الأيام تحت وطأة شرخ داخلي – غير مرئي لكنه مفتوح – كأنه صدع في نظام العالم، وعدم لياقة كونية بمزاعم إمكانية استمرار الحياة دون اهتزاز. رحيل أحمد ولد الشيخ ولد جدو ليس مجرد تذكير قاسٍ بأننا لا نزال نتنفس؛ بل هو دق جرس نهاية عهد، سقوط علامة صامتة كانت تنير مساراتنا.
ليس مجرد موت رجل، بل انطفاء كثافة إنسانية، نسيم من النبل، حضور لا ينجبه زماننا الشحيح العطاء. كان هناك زمن يقف  فيه رجال الدولة بصلابة. أحمد، من بينهم، حمل محور العالم بتبختر رجل الصحراء.
لا أعلم إن كان من المناسب كتابة تأبين لمثل هذا الرجل أم لا، ربما من الأفضل أن نصمت بكل حرقة.
لكن بقاءنا يجعل الشهادة واجبة، ولو لتأجيل الانهيار قليلاً. لم يكن من هؤلاء الذين يصنعهم صخب الإعلام أو تبنيهم المظاهر. كان من سلالة مهندسي الجمهورية الصامتين الذين لا تقرأ أعمالهم في التصريحات أو التماثيل، بل في الذاكرة المحبوكة للمؤسسات والبشر.
ما فقدته موريتانيا ليس فقط رجل دولة، بل شكلًا للدولة. طريقة في النطق بالعالم دون رفع الصوت، في فرض الوجود في الأوساط العليا دون تلوّ من الهيئات، في شق المسالك الدبلوماسية بأناقة من يعرف أن الفاعلية تنبثق من السر، وأن العظمة تختبئ في الانسحاب، وأن السيادة الحقيقية لا تُعلَن: بل تهمس، تُلهم، وتنتقل.
بعلمه الجم وأدبه الدائم، وبدوام يقظته التي لا تبهرجها أي زينة، حمل أحمد كلمة موريتانيا في أضيق صالونات الجمهورية الفرنسية، في زمن كانت فيه دقة الكلمة وصمتها أثمن من الخطب.
وهكذا، وفي خطوة استثنائية داخل أروقة البروتوكول "الغولي"، دعا رئيس بروتوكول الإليزيه، أمام جمع من السفراء المذهولين، أحمد لجلسة خاصة مع الجنرال شارل ديغول نفسه.
لم يضف أحد كلمة. كانت كل الأمور واضحة. تقدير مؤسس الجمهورية الخامسة لرجل الصحراء الذي كانت أناقته تغالب ذكاءه، نقش بلا محو في تاريخ العلاقات الفرنسية الموريتانية غير المدون.
ولم يكن ذلك حادثة عابرة. ففي مفاوضات تاريخية بين الولايات المتحدة وجبهة تحرير جنوب فيتنام في باريس، اهتمت وزيرة خارجية حكومة جنوب فيتنام الانتقالية الثورية، السيدة نغوين تي بينه، بتلبية دعوة السفير الموريتاني. بل طلبت منه نصيحة، ليس في استراتيجية عسكرية، بل في حكمة سياسية. فعلاً، لا يستشار إلا الحكماء، وهنا، لا وزن إلا للأصدقاء المؤثرين.
لم يلمع أحمد بضجيج، بل بالثبات. انسجامه مع الثقافة العربية الإسلامية، معرفته الدقيقة بالحضارات الإفريقية، وصداقته الشخصية مع رموز كبار كليوبولد سيدار سنغور وفيلكس هوفويت بويني، جعلته جسرًا حيًا بين العالمين العربي والأفريقي. كان دبلوماسيًا بالمعنى القديم: رابطًا بين الخيال الجماعي، وسيطًا رقيقًا بين أنانية الأمم، شاهداً فاعلًا في نسج عالم ما بعد الاستعمار.
في بداياته، كان من القلائل الذين تنقلوا في أعلى هرم الإدارة: كاتبًا عامًّا للحكومة ووزارة الخارجية والبرلمان، وسفيرًا في تونس، ثم أول سفير معتمد في المملكة المغربية في عهد الحسن الثاني. وإن كانت هذه المناصب مجرّد زبد أعماله، فإن الرجل نفسه تجاوزها بنبل روحه.
إن أحمد ولد الشيخ ولد جدو كان الذاكرة الدبلوماسية. لم يكن رجلاً لمناسبة، بل رجل عمق. لم يكن مشغولاً بالتاريخ؛ بل كان يُقيم فيه.
يعلم من عرفه أنه كان ينبض بجماليات متعددة: دقة العالِم ورهافة المثقف وإيمان الحكيم وتواضع الخادم.
كان لي الشرف، طوال 55 عامًا، أن أتشارك معه صداقة حقيقية. خلال الثلاثين سنة الماضية، تقابلنا كثيرًا بين نواكشوط وبوتلميت، في لقاءات طويلة وغنية بالتمحيص، كان الحديث فيها دائمًا أعمق من الكون. يعلم كل شيء، لكنه لم يجعل من معرفته شعارًا. فهو يعرف أن الحكمة الحقيقية لا تُعَلم؛ بل تستمع.
كان أحمد مرتبطًا ارتباطًا فريدًا بالمؤسس، المختار ولد داداه؛ علاقة نادرة لا تحبسها إكراهات الزمن ، تُكتب في مخطوطات غير مرئية تسطر فيها الشعوب أواصرها  الحقة. وقد جمعهما أولًا وِفاقُ روحيْن  تغذتا بالنخوة، توافق ضمني بين بانيَّيْن لجمهورية ما تزال في طور الولادة ـــــــــ إذ هما رجلان من الداخل ــــــــــ الصمت والتفكير الخالص.
عندما غادر المختار، صغيرًا، عين السلامة لملاقاة عين بتيلمّت، استضافته أسرة الشيخ ولد جدو. لم يكن ذلك مجرد كريم، بل إيصالًا لموروث، لمسار  ومصير مشترك. الأرض التي وطئها كانت قد تشبّعت برحمة تلك السلالة التي تعرف أنّ التعليم هو عصارة الأمم. وقد وردت في كتاب "موريتانيا ضد الرياح والأمواج" للمختار، رجل الدولة بصوته المتزن ، تلك اللحظة البسيطة التأسيسية التي  تبرز رسما بيانيا للوفاء الدائم.
في تلك السنين التي كانت فيها الفِكر تتأنى لتنضج، كنا هنالك بثلاثة أصوات، في أمسياتٍ هادئة بعين السلامة، وفي سهرات مطوّلة بنواكشوط. كان أحمد حاملاً لمعرفة كثيفةٍ وصامتة؛ وكان محمد ولد مولود ولد داداه، المثقف المفسّر الرائع للحضارات؛ وكنتُ أنا، ظمآنًا للمعرفة، باحثًا عن المحاور والوضوح.
لم تكن لقاءاتنا محادثاتٍ عابرة، بل محاولات لاستخراج الواقع، وتمارين صفاء جماعي نستنطق فيها ذبذبات العالم لنستخرج مسارات قابلة للحياة، تصورات اتجاهٍ لحياة شعوبنا المجهولة.
كنا نلتقي أيضًا عند صديق مشترك، محمد سيديا ولد باه، الرجل الصارم في الفكر والأخلاق،  الذي جعل عمقُ روحه من كل لقاء ارتفاعًا.
قبل ثمانية أيام من رحيله، طلب ابني – روح شابة تشتاق إلى التاريخ – مقابلته. بدون أوراق أو تحضير، بالأناقة المألوفة التي تميّزه، بدأ أحمد بسرد طويل، دقيق، صارم، نابض، وكأنه أراد أن يرشدنا للنور الأخير الذي لا يجب أن ينطفئ.
لأن أحمد ولد الشيخ ولد جدو لم يكن ابن زمن واحد؛ بل كان ابن تقليد. تقليد أعلام العلماء في بلاد شنقيط؛ رجال الإيمان، الواجب، والصفاء.
فاجعة اختفائه تركت في قلبي – وهو نفس قلب أسرته – فراغًا لا يسده إلا الدعاء والذكرى.
إلى أسرته الكريمة، وإلى الأمة الموريتانية التي سيظل أحد أبنائها الأجلّاء، نجدد مشاطرتنا ألمهم.
رحمه الله ورفع درجاته وأضاء قبره بنوره، وألهم من تبقّى حمل ذكراه بأمانة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.

محمد علي الشريف
نواكشوط، 21 يونيو  2025

 

 

24. يونيو 2025 - 18:31

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا