مخطط أوّلي لبرنامج وطني للتغلّب على الجفاف والهجرة الريفية / موسى حرمة  الله

توطئة تمهيدية
أدّى الجفاف المزمن الذي اجتاح موريتانيا منذ عدة عقود إلى إحداث اضطراب في أسلوب عيش السكان. وباستثناء زمرة محظوظة، فقدت الغالبية العظمى من المواطنين مصادر دخلها.
واضطر الكثير من الناس – تحت ضغط الجوع والعطش – إلى النزوح عن مواطنهم الأصلية والتكدّس في المدن سعيا إلى تحصيل وسائل للرزق بما يقيم أوَدَهم. ولم يعد بالإمكان الاستمرار في طريقة الحياة القديمة بالركون إلى التعفّف وراء أستار الخيمة أو الكوخ بما تيسّر من زاد شحيح: قطعان قليلة من الماشية أو كميات من الحبوب يتم اقتناؤها، من هنا وهناك، عن طريق بيع نعجة، أو بقرة، أو ناقة.
كان الناس سعداء لتخلّصهم من هاجس البحث عن كماليات الرفاهية. ولم يكن يهمّهم سوى التهيّؤ للحياة الحقيقية في الدار الآخرة. لكن مع تجمّع السكان في الأوساط الحضرية، أصبحت الماديات تطغى – للأسف – على الروحانيات. وهيْمنت حياة البذخ في المدينة تدريجيا على المسلكيات ودنّست الأخلاقيات. وسرعان ما تلاشت القيم العتيقة والمبادئ المثالية تحت وطأة الحياة الحضرية وزحمة متطلباتها المتنامية. وأضحى المال معيارا لكل شيء. وسيطر البحث عنه – من حِلّه وحرامه – على أذهان الجميع. لقد صار المال عصب الحياة ووسيلة البقاء.
وبالفعل، تزايدت حدة الفقر بصمت وتفاقمت المعاناة. وأصبح الجميع – مع استثناءات قليلة – نَهْبًا للقلق مما يُخبّئه الغد. واختفت البهجة التي كانت مصاحبة للحياة التقليدية ولم تعد سوى ذكريات تثير الحنين.
كيف العمل إذن لمواجهة هذا الوضع المتأزّم؟ في البداية: لا بد من ملاحظة كون المسؤولية عن هذه الوضعية الكئيبة تعود إلى المجموعة الوطنية، أي إلى الدولة. صحيح أن هذه الأخيرة تبذل ما في وسعها بوسائلها المحدودة. لكنها تبقى بطبيعة الحال عاجزة عن تلبية هذا السيل الزاحف من العوز والفاقة. بيْد أن لكل مشكلة حلا. والرهان هنا يتعلق بحياة المواطنين، لذا لا مناص للسلطات العمومية من أن تراجع استراتيجياتها وفق سلم للأولويات التي على رأسها خلق الظروف المؤاتية لتثبيت السكان في مرابعهم الأصلية.
من هذا المنطلق، سنستعرض في التحليلات التالية ما نتصوّر أنه سبيل متاح لوضع حد للمأساة التي يعانيها العديد من مواطنينا. فما المقصود بذلك؟ يتعلق الأمر على وجه التحديد برسم سياسة جديدة تحفّز السكان الذين نزحوا عن بيئتهم الطاردة إلى العودة نحو أراضيهم الأصلية. كيف يتم ذلك؟ بخلق سلسلة من الفضاءات القابلة للسكن على أرجاء الصحراء القاحلة.
قبل الخصاصة الناجمة عن الجفاف القاسي الذي ضرب البلاد بقوة، كان البدو الرحل يعيشون بشبه اكتفاء ذاتي، في مجموعات ملتئمة هنا وهناك على أساس عائلي أو قبلي، في مخيّمات تنتجع قرب نقاط المياه. غير أن القحط قضى على هذه الحياة الهنيّة.
المقصود الآن هو التغلب على المصاعب بانتهاج تدابير هيكلية تمكّن المعنيين من استعادة بيئتهم الماضية. ولربما يؤدّي ذلك إلى التخفيف من وقع حقبة الجفاف المأساوي على الذاكرة الجمْعية والتقليص – على نحو كبير – من الضغط السكاني على المدن. 
إن السكان – بدفع من غريزة البقاء – قد تمركزوا على طول المحاور الطرقية. واستطاعت بعض البلدات بما تيسّر من وسائل محدودة للغاية أن تحفر بئرا وتزوّدها أحيانا بمضخة، ثم بناء أعرشة تؤوي من تقلبات الجو. لكن كل ذلك ظلت تطبعه الهشاشة.
والواقع أن الأوضاع في الريف لا تواكب مقتضيات العصر. وهناك مفارقة هي أن السكان تخلوا عن نمط عيشهم البدوي دون أن يندمجوا في الحياة الحضرية. والمقصود الآن هو أن نحوّل التجمّعات البدوية إلى بؤر للسكن الحضري. وهذا بالضبط هو موضوع هذا المخطط الأوّلي لبرنامج التغلب على الجفاف والهجرة الريفية. وتتمحور هذه المقاربة حول ثلاث نقاط: دور الدولة، والنجاح المفاجئ للزراعة المروية في الوسط القاحل، والتركيبة المالية لإنجاز هذا المشروع.

دور الدولة في تهيئة الأرضية
1.    إحصاء كافة البلدات الريفية المنتشرة على طول المحاور الطرقية، وتحديد عدد سكان كل من هذه الكيانات.
2.    التأكد من وجود مياه جوفية ومن ديمومتها.
3.    تحديد الأماكن المختارة في كل منطقة لإجراء تجربة الزراعة المروية، باعتبار وجود المياه الجوفية وتبعا لعدد السكان.
4.    رسم خطة وطنية لتعميم هذه العملية في وقت لاحق. 
5.    المضاعفة، عند الاقتضاء، للعدد الموجود من الآبار المزوّدة بمضخات وبشبكات نقل المياه حتى تصل إلى الجميع.
6.    مجانية الماء وتصليح المعدات وصيانتها.
7.    إقامة لوحات شمسية لإنتاج الطاقة، دائما على نفقة الدولة.
8.    توفير أعلاف للحيوانات.
9.    إقامة محطات لتقوية شبكات الهاتف.
10.    تشييد مدارس ابتدائية، وإعداديات، وثانويات عند الاقتضاء.
11.    تزويد كل بلدة بسوق بما في ذلك دكاكين "الأمل".
12.    بناء مستوصفات أو عيادات، بحسب ضخامة التجمعات السكانية.
13.    تشييد مساكن (أعرشة أو أبنية صلبة) للموظفين: مدرسين، ممرضين، أطباء، فنيين، إلخ.
14.    إمداد كل بلدة ريفية كبيرة بسيارة أو سيارتيْن للإسعاف.
15.    إقامة مركز للشرطة أو للدرك في كل بلدة كبيرة.
16.    اتخاذ تدابير تحفيزية لدفع السكان إلى مغادرة المدن في اتجاه البلدات الريفية. ومن هذا المنظور، قد يتقرر تسديد علاوة للعودة.
17.    إنشاء إدارة، وبالتحديد وكالة، للإشراف على هذا البرنامج وتنسيقه. ويمكن أن تُلحق هذه الهيئة بالوزارة الأولى. ويتعيّن أن تكون لها ممثليات في كافة الولايات.

النجاح المفاجئ للزراعة المروية في الوسط القاحل

وضع سياج في كل بلدة لتطويق الزراعات الغذائية بمساعدة فنيين زراعيين. وتوفير البذور مجانا. ومعلوم أن الوسط الصحراوي قاحل بسبب ندرة المياه. غير أن وجود المياه الجوفية هو ما يغيّر المعطيات. فبوجود الماء، يمكن أن تزدهر جميع النباتات في الصحراء الجرداء.
ذلك أن الأراضي الموريتانية – رغم قحولتها – تنطوي على مقدرات هامة من المياه الجوفية التي من شأنها أن تتيح زراعة مستدامة، بشرط اعتماد تقنيات حديثة للري.
فالعديد من الولايات تتوفر على مياه جوفية عميقة (اترارزه، تكانت، الحوض الغربي، إلخ). وهذه البحيرات الجوفية، الواقعة على عمق يتراوح بين 80 و120 مترا، تتيح فرصا واعدة للزراعة المروية.
وأفضل طريقة للري هنا هي استخدام الطاقة الشمسية. "والنظام الذي يوصى به يقوم على حفر مجهّز بمضخة مغموسة، تزوّدها لوحات شمسية، مربوطة بخزان مرتفع وشبكة تصريف بالقطرة قطرة. ولهذا الحل مزايا على النحو التالي:
-    اقتصاد الوقود؛
-    صيانة محدودة؛
-    التلاؤم مع الظروف الصحراوية".
ويلزم أن تُزوّد كل بلدة بحفر خاص بالزراعة. ويكون هذا الحفر على مشارف البلدة.
ويعتبر وجود مساحة زراعية شرطا لا غنى عنه لإنجاح البرنامج المقترح. ومن المنتظر أن يشكل إنتاج المواد الزراعية رافدا هاما في تغذية السكان. وستتراوح المساحات الزراعية ما بين هكتارين إلى ثلاثة هكتارات بحسب حجم السكان.
وبالفعل، تتم ممارسة زراعة الخضروات حاليا في العديد من البلدات. وباعتماد حفر خاص بالزراعة، لن تزداد مردودية المساحات المزروعة فحسب، وإنما ستتضاعف لتغطي على المدى القريب جدا حاجات المجموعة المعنية، وستنتج فائضا يمكن تصديره إلى المدن المجاورة.
ومن بين المحاصيل الزراعية الممكنة في الأراضي الموريتانية، نذكر:
-    الفواكه: البطيخ، الرمان، ثمرة الباباي، التين، الليمون، الليمون الهندي، وعند توفر بعض الشروط مثل مصدات الريح: البرتقال والماندرين وغيرهما من الحمضيات؛
-    الخضروات: البصل، الثوم، الطماطم، الجزر، الخيار، الفلفل، البطاطس، إلخ.
-    الحبوب: الذرة، الدخن، الصورغو، إلخ.
دون أن نغفل زراعة الأعلاف: البرسيم (الفصّة)، إلخ. وبطبيعة الحال، النخيل الملائم تماما للمناطق الصحراوية. ولا يحتاج النخيل إلى الكثير من الماء، لكن يلزم سقيه بصفة منتظمة. وبالإمكان غرسه بطريقة الفسيل المنقول أو بواسطة الزراعة بالبذور في المختبر.
ولا تقتصر زراعة النخيل على ولايتي آدرار وتكانت، بل أظهرت التجارب نجاحها في ولايات أخرى قاحلة، لا سيما على يد مجموعات ريفية.
 وفيما يلي تصنيف المياه الجوفية بحسب الولايات (اعتمادا على الذكاء الاصطناعي):
1.    اترارزه: ممتازة
2.    الحوض الغربي: جيدة جدا
3.    تكانت: جيدة جدا
4.    الحوض الغربي: جيدة
5.    آدرار: جيدة
6.    غورغول: متوسطة إلى جيدة
7.    لبراكنه: متوسطة
8.    غيديماغا: متوسطة
9.    إينشيري: ضعيفة
10.    نواكشوط: ضعيفة جدا
11.    نواذيبو: ضعيفة جدا
12.    تيرس زمور: غير قابلة للاستغلال دون معالجة.

التركيبة المالية للمشروع

من الطبيعي أن يتم إنجاز هذا المشروع على عدة مراحل. فيمكن الشروع بتجارب نموذجية في بلدات ريفية تقع ضمن المناطق ذات الكثافة السكانية والتي تتوفر على مياه جوفية غزيرة. فما كلفة كل ذلك؟ لن يتسنى تحديد الكلفة بدقة إلا عبر دراسة اقتصادية ومالية. ولربما تتمثل الكلفة في عدة مليارات من الأوقية.
وبالمقابل، يمكن على سبيل الاستئناس رسم جدول يبرز تلك التركيبة المالية التي قد تعتمد على الخانات والنسب التالية:

 

شركاء دوليون (عرب، أوربيون، أميركيون) ومؤسسات مالية دولية مثل البنك الإفريقي للتنمية

 

 

الدولة

 

 

أرباب العمل

 

 

تآزر

 

 

الجهات

70%

15%

7%

7%

1%

 

 

 

 

 

وبالإمكان تعديل النسب السابقة وإعادة ضبطها حسب الاقتضاء.
وإذا ما قُيّض لهذا المشروع أن يتجسّد على أرض الواقع، فسيتم بلوغ الهدفيْن المنشودين، ألا وهما:
-    تحويل البدو إلى سكان حضريين بتقرّيهم في أماكن مناسبة، بمنأى عن غوائل الجوع والعطش؛
-    تخفيف الضغط عن المدن، بما سينعكس في المقام الأول على الحد بشكل محسوس من الجنح والجرائم الحضرية.
وباعتبار الرهانات وترتيب الأولويات، يظل هذا البرنامج، في التحليل النهائي، في المتناول ولا يستلزم كلفة باهظة. وبالنظر إلى الجدول أعلاه، يبدو تمويله قابلا للتحقيق عمليا. ولا يبقى سوى توفر الإرادة السياسية لذلك.

موسى حرمة الله
أستاذ جامعي
حائز على جائزة شنقيط

 

 

 

24. يونيو 2025 - 18:41

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا