تعيش بلادنا منذ زمن بعيد تحت رحمة ديناصورات الفساد التي لا تختفي و لا تهاجر, و التي لا يبدو أنها تستشعر هم الوطن و لا أوجاع المواطن الجمّة , ففي كل فترة من فترات الهدوء و خلال كل هزة من هزات ما يسمى ظلما و عدوانا بالديمقراطية تارة و التغيير تارة أخرى
مرورا بحالات التأزم السياسي العشوائي , ظلت نفس الوجوه التي لا تزال تدور في الساحة تمسك بزمام الأمور في كل مرافق الدولة و التي لا شك أنهكوها و أرهقوها بعظيم فعالهم الشنيعة في حقها من إختلاس و سرقة و تحايل , و بنيانهم لذواتهم على حساب الشأن العام و هيبة الدولة و حضورها .
فالمضطلع على شؤون الدولة و مرافقها العمومية و معالمها و سياساتها و مشاريعها و دوائرها و شخصياتها النافذة , و تظاهراتها و بعثاتها و حضورها على المسرح الوطني و الدولي , و نسبة الوعي بين أفراد المجتمع و مستوى الخدمات العمومية , و قابلية الخضوع للقانون و مسايرة المتغيرات العالمية في مختلف المجالات , المضطلع أو المهتم بهذه المؤشرات , يتفاجؤ لا محالة بمستوى الإنفصام الكبير بين مستواها المتدني في كل هذه المجالات و بين ما تملكه من سِنِيِّ العمر و مقدرات.
فإذا ما تذكرنا بأن موريتانيا تملك إحتياطيا من أكبر الإحتياطيات في العالم من الحديد الجيد , و الذي بدأ إستغلاله منذ خمسينات القرن الماضي ليصل الإستغلال أحيانا إلى 12 مليون طن سنويا من الحديد الخام , إضافة إلى النحاس الذي بلغ أوجه إستغلاله في السبيعينات حيث وصل الإنتاج في تلك الفترة ما يقارب 3000طن سنويا , و من بعدها مناجم الذهب التي يتم إستغلالها منذ فترة في 8 مناجم رئيسية في البلاد حتى الآن , كما قد تم البدأ في إستغلال الجبس منذ الثمانينات و الذي يقدر الإحتياطي منه 20 مليون طن , الشيء الذي يمكن أن تضاف إليه عائدات النفط مجهول الحقيقة.
إن الثروات البحرية و الحيوانية و الزراعية التي لا يمكن ان نغفلها لا شك شكلت و تشكل مصادر طبيعية تعود بمردود مالي كبير ; و تساهم بمبالغ ضخمة تدخل خزينة الدولة من خلال الإتفاقيات , خاصة في مجال الصيد الذي يأخذ أشكالا متعددة بإتفاقيات متنوعة مع منظمات دولية و دول بعينها.
العائدات المالية لهذا الإنتاج الضخم إضافة للقروض الكبيرة و المستمرة بإسم الدولة و الشعب و المساعدات و تمويلات المشاريع من طرف الشركاء و الأصدقاء , و جباية الضرائب من مختلف القطاعات و على نطاق واسع و بمبالغ ضخمة من عائدات الشركات و المؤسسات الكبيرة و الصغيرة , كلها أموال طائلة يضاف بعضها إلى بعض.
و حري بدولة تمتلك هذه المقدرات إضافة إلى الموقع الجغرافي الإستراتيجي أن تكون قطعت أشواطا كبيرة في مجالات التنمية من طرق و صرف صحي و مستشفيات و مؤسسات تعليمية و حماية مدنية و مواصلات و تحولات إقتصادية تكفل العيش الكريم للمواطن البسيط , و وعي إداري يقرب الخدمات من مستحقيها و يرفع من شان القضاء حتى يواكب المتغيرات السياسية و الإجتماعية بما يضمن العدالة و الإنصاف و توفير فرص التشغيل و تدعيم الوحدة الوطنية و الوئام و الإنسجام الوطني.
لكن و للأسف الشديد أخذ التعامل مع هذه الموارد الكبيرة منحى آخر تماما فتوجهت الدولة بفعل السياسات الفاشلة التي تمحورت في مجملها حول نظرية الزعيم و توطيد دولة الفرد و حاشيته من الاقربين , ليتفرق دم الدولة و عرقها بين ثلة من الأشخاص على إمتداد عقود من الزمن فظهرت طبقة برجوازية بثراء فاحش لا علاقة لها بالمجتمع البسيط و طبقة أخرى موغلة في الفقر المدقع تتصبب غيظا و تتحرق ألمًا من واقع مرير أساسه الإحساس بالحيف و الظلم و التغييب.
ليس فقط بالموارد الطبيعية و بتعداد السكان و لا بإتساع الرقعة الأرضية يقاس تقدم الشعوب و لا نجاح مشاريع الدول و الأقاليم , بل بنوعية المواطن و الإرادة الصادقة للبناء و الإحساس بالمسؤولية و تحكيم الرقيب الداخلي و محاسبة النفس و تنقية الضمير من الشوائب النفعية و إمتلاك إرادة الفعل الإيجابي و صون الممتلكات العامة ,
و الإحتكام للمصلحة الوطنية في جميع النزاعات و الإختلافات , و التوجهات و القبول بالآخر.
و ما كان لأي كيان مدني حضاري أن يصل لما يليق من ضرورات الحياة و مواكبة المتغيرات في الداخل و الخارج إلا إذا إستطاع بناء الإنسان الذي هو الثابت من بين تلك العوامل المشتركة في تكوين الدولة , و لن يتسنى ذلك إلا بالتركيز على منظومة التعليم التي هي أساس تكوين الإنسان و عماد بنيته الفكرية و القيِّمة على زاده الإخلاقي .
لكن التعليم الذي بصلاحه تسير الأمم على الطريق الصحيح نحو الخلاص من التبعية و التخلف و به تتحقق العدالة يعتبر اليوم من أكثر القطاعات فسادا و إفسادا و أبعد ما يكون من إعداد فرد ناضج سوي السلوك قادر على الفعل الإيجابي , و يرجع ذلك إلى تحكم لوبيات عتيقة في الفساد في جميع مفاصله , و التي لا يعنيها من شأن التعليم سوى مصالحها الضيقة عن طريق التلاعب بكل ما تستطيع , و حدث و لا حرج عن التلاعب المالي من خلال الميزانيات الوهمية و العلاوات المفتوحة و التكوينات العبثية و البعثات العقيمة و التحويلات التجارية و التعينات المجحفة , و المقايضات التوافقية , و التكريمات الظالمة و التغطية على المختفين ...........
كل هذه الأشياء و غيرها من الفوضى العارمة التي تضرب قطاع التعليم في العمق , تمارس في العلن قبل السر و من جل موظفي الوزارات و مشتقاتها من مصالح و إدارات على إمتداد التراب الوطني في حملة وطنية مستمرة لتدمير الإنسان الموريتاني و بطريقة ممنهجة ترعاها الدولة من خلا موظفيها الكبار و وجهائها و منتخبيها.
قطاع التعليم هو الركيزة التي تضمن الإستمرار في عالم متوحش لا يرحم القعود و لا ينتظر البطيء , و دولتنا تحتاج لإصلاح حقيقي تملك له الوسائل و المقدرات و لا شك أنه في الميدان الكثير من الكفاءات النزيهة التي يمكنها إنتشاله من الوضعية المزرية التي يعيشها , و بالتالي إنتشال الدولة من حالة الفوضى و التخلف و الخصومات و التردي الاخلاقي و التقهقر الحضاري.
حمزه ولد محفوظ المبارك - أستاذ : علوم- فيزياء.
ثانوية ولد ينج.