البداية والنهاية / موسى أعمر

فُطرت البشريّة على الخوف من الموت وحبّ الحياة، وجُبل أفرادها على النّسيان، وكثيرا ما يطغى الإنسان بعد أن يُخيّل إليه غناه عن الخالق أو عن رفاقه من المخلوقين. 

ذلك، ولئن كان التعبير أعلاه مسلّمة عقدية، فإن الأحداث الواقعية والتجربة البشرية تُمدّانه بالشّحنة العلمية العقلية اللازمة، إذْ تشكلت منذ حقب التاريخ الأولى العُصب والتحالفات الحامية للدّم والعرض والمال، ثم درجت العادة أن يخلف كل جيل متبصّر خلْف يُضيع الوفاق وتطغى عليه الأنا.

وعلى سبيل النزول للواقع، فعلى الرغم من أن الأمم المتحدة قامت على أنقاض ملايين الأرواح، وعديد المبادرات الساعية لإرساء قيّمها، فأضحت متكأ للضعيف الدولي وملجأ للمتخاصمين؛ إلا أن أحداثا متراكمة أظهرت العجز وأفضت إلى تشكل صورة قاتمة حول مستقبل المنظومة العاجزة عن حل المشاكل أو الحيلولة دون قيامها، الأمر الذي بدا في السنوات الأخيرة -أكثر من أي وقت مضى- أظهر للعلن وأشد أثرا. وكأن الأحداث المتعاقبة والمتلاحقة؛ تُمثّل بداية سكرات موت النظام الدولي الحولي. 

وتثير هذه الحالة تساؤلات جمة في الحقول المعرفية ذات العلاقة، منذ سنوات، وبالتحديد حول مصير النظام الدولي في شكله الحالي، وسنريوهات النهاية. هذه الأحرف مساهمة في القراءة والاستشراف. 

أولا- سياق التحوّل 

في ديباجة ومواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، والمعاهدات والاتفاقيات المُنزلة لمحتواهما على صعيد الممارسة؛ يتأكد نُشدان هدفين هامّين، هما: حفظ الأمن والاستقرار الدوليين، وضمان علاقات متّزنة ومحترمة بين دول العالم، وحل النزاعات بآليات ووسائل سلمية. 

ومع أن العالم شهد -منذ قيام النظام الدولي الحالي فعليا أربعينيات القرن الماضي- حروبا وأزمات كثيرة فشلت الأمم المتحدة في احتوائها أو حلها، بمستويات مختلفة؛ إلا أن احترام النصوص شكليا، كان قائما، وقدسية الهيئات والمبادئ؛ كانا أمرين مسلما بهما، وما فتئت دول العالم تجعل النص القانوني الدولي ذريعة لسيئ فعلها وحسنه، وتستجدي بالهيئات العدلية الدولية لحل نزاعاتها رغبةً ورهبة. 

لكن السنوات الأخيرة شهدت انقلابا هائلا في المعادلة، وتنكّرا لمنظومة الأمم المتحدة بنصوصها القانونية وهيئاتها السياسية والعَدلية والحقوقية، ضاع معه كثير من الهيبة والقيمة والمعنى. فانضاف الفشل الأمني إلى قرب الفشل في باقي المجالات.

وبالنظر للأحداث المتسارعة فإن أربعة أحداث هامَّة مثلت القشة التي أثقلت كاهل النظام الدولي وتكاد تقصمه، أولاها الأزمة الاقتصادية الدولية عام 2008 والتي غيرت وجه الاقتصاد الدولي الرأسمالي وأشعرت النظام الأمريكي بالخطر، وأفاق بموجبها العالم على حقيقة جشع الإنسان وهشاشة النظام المالي الربوي، والثانية آفة كوفيد-19، والثالثة العدوان الصهيوني الغاشم والغريب على قطاع غزة، وما انجر عنه من قلاقل طالت اليمن ولبنان وسوريا وإيران، حتى كتابة هذه الأسطر، والرابعة أزمة عودة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة بما تحمل من عدم يقين دولي على مستويات الاقتصاد والسياسة والأمن والدفاع. 

 إن الانسحاب غير المباشر من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، الذي نتج عن هذه الأحداث، والصراع المباشر على المصالح؛ حيّد الأمم المتحدة ومجلس الأمن -على وجه الخصوص- عن الواجهة، وجعله في وادٍ والعالم في وادٍ آخر، كما شجّع دول العالم على إيجاد حلول ذاتية لأزماتها بالسلاح أو بالاحتماء بمن يملكون السلاح، دولا كانوا أو تنظيمات مسلحة، مارقة أو مختلقة.

وبالإمكان هنا الحديث عن عديد النماذج، وليست أقلها وضوحا الأزمات الداخلية والبينية في دول الساحل الإفريقي، وأزمتي ليبيا والسودان، والحالة السورية، ووضعية اليمن، وهلم جرا. 

ولأنّ المستقبل وليد الحاضر، ولا يمكن فصله عنه، وفي ظل عديد المؤشرات وتزايد حدة النزاع؛ لا يعد من المستغرب طرح ونقاش فرضيات تلاشي النظام الدولي الحالي. 

ثانيا- فرضيات التلاشي 

ذلك، ولئنْ كان تفكك الأمم المتحدة فعليا وفي الأمد المنظور لا توجد عليه مؤشرات قوية، إلا أن تلاشي المعنى والقيمة ودخول الهيئة في "موت سريري"، بفعل فاعل أو تلقائيا؛ أمران واقعيان مُعاشان، ينجرّ عنهما ظهور كيانات موازية تحمي بها الدول مصالحها، ويسهمان في تفاقم الحساسيات البينية وسباق التسلح العالمي، وبالتالي حروب دولية وإقليمية شنيعة؛ أريد يوما لمنظومة الأمم المتحدة أن تحول دون وقوعها. 

ومع أن عددا من هياكل التنظيمات الإقليمية طال عمر "موته السريري"؛ إلا أن الأمم المتحدة لا يسعها في كنه وظيفتها وحقيقة غايتها أن تبقى أمدا طويلا في "غرفة الإنعاش"، فإما أن تموت طواعية أو يُراد لها "الموت الرحيم"، وذلك أنَّ النظام الدولي لا يقبل الفراغ. 

وهنا يمكن رصد أربع فرضيات قابلة للتحقق في حيز الواقع المتسارع للعالم والجمود الطاغي في أداء المنظمة: 

1- التفكيك الطوعي: ويعني إقرار الدول بعدم جدوائة النظام الدولي الحالي والانسحاب تدريجيا من هيئات الأمم المتحدة، دون إقرار بديل. 

وهو المنحى الذي تتجه صوبه سلوكيات جل قادة العالم والتنظيمات الحاكمة، مما أنتج تخندق الدول في اتحادات إقليمية، إثنية أو دينية أو اقتصادية، قديمة أو مختلقة؛ أملا في خلق فضاء أكثر رحابة وأدعى لتوفير الأمن وحفظ السيادة. 

وهذه الفرضية -بالعودة للتاريخ والاستقراء- تبدو هي الأرجح، مع أن سنريوهات تحقّقها عديدة وأمد مثولها للعيان رَحب. 

 

2- القتل الرحيم: ومُؤدّى الفرضية أن تعلن الدول المنخرطة في الجمعية العامة انسحابها من الكيان، وتدعو لنظام دولي تحت اسم جديد وبأجهزة جديدة، وهذه النظرية بعيدة من التحقق لكنها لا تدخل حيز المستحيل وهي الأقل ضررا وتكلفة.

3- الإصلاح من الداخل: وهذه الفرضية تأخذ زخمها من دعوات صريحة رفعت منذ سنوات داخل قبة الأمم المتحدة وفي المجال الأكاديمي؛ تطالب بعديد الإصلاحات الجوهرية، على رأسها زيادة أعضاء مجلس الأمن الدائمين، والتعديل في مقتضيات حق "الفيتو". 

ومع أن هذه الفرضية من شأنها أن تعزز جريان الدم في عروق المنظمة، إلا أنها تجلب أيضا أمراضا فتاكة، فتشرذم العالم وقادته 5 دائمون و10 متغيرون؛ كان باديا، لذا ليس من المستبعد أن يشتد والقادة أكثر، أي أن دولة لم تمتثل للنصوص وهي من علية القوم وشركاؤها قلة؛ يعد امتثالها والوقع مختلف نحو تعزيز مكانة غيرها أمرا تدور حوله الشكوك. 

4- الفوضى واستمرار المعاناة: وهذه الفرضية تُنتجها المكابرة وعدم علاج مظاهر الخلل في المنظومة، أي أن تبقى الدول المتحكمة تتصرف خارج نطاق النظام الدولي والدول المحكومة تنثر الخُطب في القاعات المكيفة بنيويوروك وجنيف، ثم تتقلص المساعدات المالية المقدمة لمنظمات الصحة والطفولة والثقافة والتعليم.. فتعجز عن أداء مهامها، ويختلط حابل المشهد الدولي بنابله عسكريا. 

وهذه الفرضية خطيرة ومهلكة، وقد تفضي لنتائج أبشع من نتائج فوضى الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم هي ممكنة. 

وفي محصلة الأمر فإن انعطاف مسار الإنسانية في هذه المرحلة من الزمن يقتضي أن تواكبه منظومة دولية قوية، على قدر المسؤولية، معززة بقادة دوليين متبصرين بالأحداث، متشبثين بالقيم الإنسانية، يمعنون النظر قبل الإقدام، ويستحضرون المآلات وسامي الغايات. وفي الأفق انفكاكٌ بين الواقع والمأمول. 

27. يونيو 2025 - 7:29

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا