لفتت الحالة التكفيرية الانتباه منذ ستينات القرن الماضي، يوم امتلأت سجون الطغيان في مصر بأبناء الحركة الإسلامية الإصلاحية ممن تفنن رواد السادية في سجون عبدالناصر في التنكيل بهم،لتخرج أعداد منهم عن طور الاعتدال والإصلاحية الذي كان العنوان الأبرز لمدرسة فكرية وضع بذورها
الأولى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو والطاهر بن عاشور ومالك بن نبي قبل أن يختط الإمام الشهيد حسن البناء لها طريقا لاحبا نحو النهضة واستعادة المكانة الحضارية اللائقة.
وسريعا تطورت الحالة التكفيرية إلى بلدان عدة كان أغلبها يماشي الحالة الناصرية في قمع حملة الفكرة الإسلامية، قبل أن تدخل على خط " الظاهرة" أنظمة خليجية وجدت نفسها معنية بتفخيخ المشروع الإسلامي من الداخل؛ فأخذت تبارك وتساهم وأحيانا تصنع جماعات تكفير تجهر ببرامجها التكفيرية على مرمى حجر من أجهزة أمنية عتيدة.
ومع أن أغلب الحركات الإسلامية كانت في حال اشتباك مع أنظمة الحكم القمعية في البلدان العربية، وهي أنظمة يعلن أغلبها خلفيات قومية عربية، وتوجهات يسارية وخيارات علمانية لكن الحركة الإسلامية لم تهادن الظاهرة التكفيرية فخرج من قمة قيادات الفكر والرأي في المشروع الإسلامي من خصص جزء غير يسير من جهده العلمي والدعوي والفكري لتبيين خطأ وخطر جماعات التكفير على المجتمعات المسلمة، وتحتفظ المكتبة الإسلامية اليوم بعشرات الأعمال الرصينة التي أنجزتها كوكبة من أعيان القرنين الأخيرين في مواجهة التكفير يمكن أن نشير تمثيلا لاحصرا للشيخين يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي، وللمفكرين راشد الغنوشي ومحمد المختار الشنقيطي وللكاتب الصحفي الكبير فهمي هويدي.
وبفعل كثافة ومواظبة الجهد الذي قيم به في الساحة الإسلامية فقد تراجعت الظاهرة كثيرا في العديد من البلدان، وأصبحت حالة مكشوفة فكريا وعلميا وحتى ميدانيا رغم أنها قد تكون الأكثر صخبا وبالتالى الأوفر حظا في القصص الإخبارية القادمة من هنا و هناك.
....
ليس الغرض من الحديث السابق الغوص في مسار وتطور الحالة التكفيرية بقدر ماهو التمهيد للحديث عن نمط جديد من التكفير لم يجد بعد من يصنفه تكفيرا أحرى أن ينبري له من أصحاب المشتركات الفكرية والمذهبية والعقدية مع حامليه من يرشدهم ويدفعهم للاعتدال والتوسط
الحالة التكفيرية الجديدة أو التكفيريون الجدد هم جماعات من " العلمانيين العرب" ترفض في ما تنتج من فكر وما تعلن من مواقف وما تتبني من خيارات أي شكل من أشكال الاعتراف بالآخر المخالف وخاصة إن كان هذا الآخر يعلن أو يضمر مرجعية إسلامية يعتبرها هؤلاء أساس الشر والبلوي وأولوية المواجهة الضرورية والمتعينة قبل أي أولويات أخرى.
وكما هو الحال في الحالة التكفيرية الأولى التي وجدت وما زالت تجد امتدادات لها هنا في موريتانيا، يزخر عالمنا الافتراضي والواقعي اليوم بعدد من مريدي المدرسة التفكيرية، أو التكفيريين الجدد يرددون بكثير من التقليدية والنصية ما ينتجه مشايخ التيار التكفيري الجديد، لاغرابة طبعا في التقليد في الحالتيين فنخب هذه البلاد لهم قصة مع" التابعية" سبق للباحث المتميز الدكتور يحي ولد البراء أن تتبع بعض ملامحها الفقهية في قرون خلت وهي أشد وضوحا في العقود الأخيرة وبين معتنقي المدارس والتيارات والخيارات الفكرية الحديثة من مختلف التوجهات والمشارب..
في دين، ومذهب وعقيدة وطريقة التكفيريين الجدد كل الإسلاميين ملة واحدة من الظلامية والرجعية والتخلف ورفض الآخر، وضيق الأفق، كلهم مشاريع متفجرة، من لم يفجر نفسه فقد نوي كما عبر الشيخ القرضاوي، كلهم لا علاقة لهم بالديمقراطية ولابالحرية ولا بالتعددية ولابحقوق الإنسان ولابدولة المواطنة أحرى دولة القانون.
بالنسبة لحراس الملة التكفيرية هذه مطلوب الكثير من اليقظة لرصد من يحاول من " الكفار الإسلاميين" التسلل إلى الحظيرة مدعيا حداثة لايستحقها، أو رافعا شعار حرية لايؤمن بها، أو متدثرا بحقوق إنسان يحتقره، أو زاعما إنصاف أمرأة لايقر حتى بآدميتها. وكما هوحال التكفيرين على الضفة الأخرى يعتبر الإسلاميون الذين يعلنون إيمانا مزعوما بقيم حديثة أو حداثية اخطر من أولئك الكفار الصريحين الذين يجهرون بكفرية الديمقراطية وشركية الحداثة، وإلحادية الحرية، واستعمارية حقوق الإنسان وفجورية دعوات تحرير المرأة.
تقتضي الصرامة" العقدية" أن يضرب حول هؤلاء طوق وأن ترسم لهم حدود لايتجاوزونها، فهم قوم منافقون يحسبون أن بإمكانهم خداع حراس المعبد والتسلل إلى جنان الحداثة، وصوامع الحرية، وفناءات حقوق الإنسان، وسيكون على من يريد الخروج من الطوق والقفز على الحدود مواجهة محاكم تفتيش تمتلك أسئلة في صميم العقيدة مع أجهزة كشف كذب وسياط فكرية حديثة لاتسمح لأي منافق مميع أن يدخل الحيز الثقافي والمعرفي للفرقة الحداثية الظافرة المظفرة.
إن انتشار خطابات التكفير الديني واللائكي باتت تمثل اليوم خطرا حقيقيا محدقا بانسجامنا الاجتماعي والثقافي وهو ما يستدعي" حلف فضول ثقافي وطني من حملة فكر الاعتدال والتعايش والمشتركات الفكرية من مختلف التوجهات الإسلامية واليسارية والقومية، ومن مختلف المكونات الوطنية، والمجموعات الاجتماعية، حلف ينبغي أن يكون شعاره أن لايخون أو يكفر في هذه البلاد أحد نتيجة مواقف أو خيارات أو قناعات فكرية يعلنها أو يمارسها.
الدعوة لتشكيل هذا الحلف ليست دعوة ذات طبيعة سياسية ،ولاهي مؤسسة على خلفية تهرب من نقاشات فكرية وإيديولوجية وحتى عقدية قائمة وضرورية وطبيعية، بل هي تعبير عن قناعة راسخة أن جدول أعمال نخب هذا البلد أو من يعتبرون أنفسهم هكذا تتصدره نقاط عالقة ومؤجلة منذ تأسيس الكيان الموريتاني، انضافت لها نقاط ثقيلة فرضها إطباق العسكر المعززين غالبا بنخب مدنية على حكم البلد منذ ثلث قرن، وما لم تتوحد قطاعات واسعة من المؤمنين بدولة قانون حديثة تسع كل المكونات فسيكون علي ساكنة هذه الديار العيش نصف قرن آخر من التيه وتصدر القوائم الدولية من الخلف اللهم إلا ماكان منها يرصد مؤشرات الاستعباد أو المجاعة.