
ما حدث ويحدث، منذ أزيد من عام في غزة المحطمة والمبعثرة على أطراف الضمير الإنساني، ينبئ بانحدار غير مسبوق، ويعطي صورة واضحة لا لبس فيها عن الانقلاب الكبير في القيم الإنسانية وسيطرة محور الشر، فالكفة اليوم تميل لصالحه بكل وضوح .
في غزة وضع إنساني كارثي بكل معنى الكلمة: تدمير كامل للبنية التحتية الصحية وشبكات المياه والكهرباء، مما تسبب بشلل اقتصادي أدى لانعدام المواد الأساسية بما في ذلك الغذاء والدواء والوقود، وتفشي الأمراض والأوبئة، بالإضافة لحصار مستمر بري وبحري وجوي خانق تفرضه إسرائيل وعزلة دولية واجتياح بري وقصف جوي على مدار الساعة، وقد ترك أهل غزة لمواجهة مصيرهم هذا لوحدهم، ورغم كل ذلك، لم تنكسر غزة ولم تركع أو تخنع فما زالت شامخة تنبض بالحياة والتحدي.
دبلوماسية بلا ضمير، سياسة العجز أم التواطؤ؟
التقصير العربي والدعم الأمريكي عبر استخدام الفيتو وعدم الضغط على الحكومة الإسرائيلية، بالإضافة إلى صمت الدول الأخرى المطبق الطويل والمخجل، حوَل العالم بأكمله اليوم لشاهد زور في معركة الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وأكبر ملحمة في التاريخ، خيب الآمال وحفر قبر الضمير الإنساني العالمي.
السياسة الدولية (دبلوماسية الدول والمنظمات الدولية) مطالبة بإعادة التفكير والنظر في مبادئها وفلسفاتها، لأن الغاية من التنظيم الدولي هي: صون الكرامة الإنسانية المستباحة على شاطئ الحزن بغزة، والحفاظ على النوع البشري الذي يمعن الكيان الصهيوني الغاصب في إبادته دون خجل أو خوف، فكيف للسياسة أن تسعى باتجاه معاكس لأهدافها؟
غزة فضحت العالم بأكمله، دبلوماسيا وسياسيا وفكريا (الديمقراطية، حقوق الإنسان)، وعرت الخفايا وبهذا فهي - على الأقل - تستحق منا كلمة شكر على حجم الكشف الذي أهدته لنا دون أن نبذل أي جهد يذكر، لكنها كشفت كذلك حجم جبننا وتخاذلنا وضعفنا قلة حيلتنا.
أصبحت غزة اليوم بالفعل مقياسا للمبادئ في العالم بأسره، وجرحا غائرا في خاصرة الضمير الإنساني ومرارة لا يمكن ابتلاعها بسهولة، وإذلال نتعرض له كل لحظة، وتحد صارخ ينطلق من حناجر أطفال غزة المستحضرين تحت الركام، بعد القصف الإسرائيلي لمدينتهم؛ بل لبيوتهم وعرائشهم وتكدساتهم أمام قوافل المساعدات القليلة، في سبيل الحصول على رغيف يسد رمق الجوع لأسابيع تحت القصف والحصار.
غزة: دراما واقعية
غزة دراما إنسانية - إن جاز التعبير - عجزت عنها الهوليوود والبوليوود معا، لكنها دراما واقعية تأتي من صرخات النساء والأطفال واستبسال منقطع النظير لأبطال المقاومة في معركة لا تتوفر فيها أدنى شروط الحرب العادلة، وكل ذلك أمام العالم كشاهد زور يمعن في صمته المشين واستسلامه القاهر، أمام حرب الإبادة الجماعية بمعية مجرم الحرب نتنياهو .
وفي المحصلة نكون أمام وصمة عار على جبين الإنسانية، ستحملها أجيال الغد وتُحمل مسؤوليتها لجيلنا الجبان والأرعن، ووحشية الكيان الغاصب، وستكون لها انعكاسات خطيرة على مستقبل البشرية القريب.
وعليه فإن العالم اليوم، ممثلا في دوله ومنظماته الدولية، عليه أن ينصرف إلى التفكير بشكل سريع وجدي في صياغة إعلان عالمي يدين ما ارتكبته وترتكبه إسرائيل من مجازر وإبادة في حق الغزاويين، وإصدار قرار تاريخي لصون الكرامة الإنسانية المهدورة، حتى وإن كان ذلك خارج الأطر التقليدية: مجلس الأمن والأمم المتحدة، قبل فوات الأوان وإقرار خطوات عملية لوقف آلة القتل والتدمير الصهيونية، عبر اتخاذ موقف موحد من طرف كافة الدول المتفقة على شناعة هذا الجرم بقطع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع هذا الكيان السادي.
وربما، هذا ما بدأ بالفعل يتجسد من خلال المواقف الخجولة التي عبرت عنها بعض البلدان الإفريقية والأوروبية والآسيوية.
الداه ولد باب، نواكشوط 03 يوليو 2025
دبلوماسي موريتاني كاتب ومهتم بالفكر والنظم السياسية.