
رغم ما يعلنه المسؤولون في كل دورة حكومية من خطط ومشاريع لتحسين خدمة الكهرباء، إلا أن العاصمة نواكشوط ما زالت تغرق، صيفًا وشتاءً، في دوامة الانقطاعات المتكررة والعشوائية، في مشهد لم يعد استثناءً بل قاعدة تُدار بها الحياة اليومية للمواطنين. ومع كل صيف حار أو ظرف طارئ، تتكشّف هشاشة المنظومة الكهربائية وضعف بنيتها الأساسية، حتى باتت أزمة الكهرباء مزمنة، تمسّ كرامة الإنسان وتُقيد أي أفق تنموي في البلاد.
الكهرباء: من خدمة إلى حق إنساني
في عالم اليوم، لم تعد الكهرباء خدمةً رفاهية، بل تحوّلت إلى حق أساسي من حقوق الإنسان. فبدون كهرباء لا يمكن للإنسان أن يلج إلى أبسط حقوقه الأساسية لا من تعليم جيد ولا صحة معقولة، ولا حتى على مياه نظيفة أو سكن لائق وكل هذه الأمور من صميم الحقوق الآدمية التي تحفظ للإنسان كرامته وعزته في هذ الحياة
وانقطاع الكهرباء لا يُعطّل الأجهزة فحسب، بل يُعطّل الحياة نفسها، ويقود إلى انتهاك مباشر لحقوق المواطنين في الأمن، والصحة، والمعرفة، والكرامة.
تشخيص الأزمة: أين الخلل؟
لفهم جذور المشكلة، لا بد من تحليل علمي دقيق للبنية الكهربائية في نواكشوط:
1. ضعف التوليد: لا تواكب قدرة التوليد الحالية في نواكشوط النمو السكاني والعمراني المتسارع. وعلى الرغم من إنشاء محطات جديدة في السنوات الماضية، فإنها لا تزال غير كافية أو غير مستقرة، حيث تؤدي الأعطال الفنية إلى توقفات مفاجئة، وتكشف عن اعتماد مفرط على مصادر تقليدية مهددة بالتقادم أو التقلبات.
2. تدهور شبكة التوزيع: تعاني شبكة توزيع الكهرباء من التقادم الشديد، وغياب الصيانة الوقائية، واعتمادها على كوابل وأعمدة مهترئة لا تصمد أمام الضغط الحراري أو الحمولة الزائدة. كما أن عدم وجود محطات تحويل حديثة في عدد من الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية يزيد من الهدر والانقطاعات.
3. الأحمال العشوائية: يفتقر قطاع الكهرباء إلى آليات دقيقة لتوزيع الأحمال، كما أن ضعف البنية الرقمية التي تضبط الاستهلاك.وتمنع التحايل وعدم وجود توعية استهلاكية يفاقم الضغط على الشبكة، خاصة في أوقات الذروة.
4. سوء الحوكمة: لا يخفى على أحد أن شركة الكهرباء الوطنية "صوملك" تواجه منذ سنوات طويلة اتهامات متكررة بسوء التسيير، وغياب الشفافية، وافتقارها لمقاربة تخطيطية واضحة. وقد أفضى هذا الواقع إلى نزيف مالي وخسائر تقنية هائلة، بدون حلول بنيوية حقيقية.
الداخل المنسي:
إذا كانت نواكشوط تعاني من انقطاعات متكررة، فإن مدن الداخل تعاني في كثير من الأحيان من غياب شبه كلي للكهرباء، أو تذبذب غير منتظم يفسد الأجهزة ويشل المصالح. وتغيب العدالة الطاقوية عن أغلب المناطق داخل البلاد، في وقت لا تزال فيه كثير من التجمعات السكنية تعيش في الظلام.
الكهرباء والتنمية: من يسبق من؟
لا يمكن لأي مشروع تنموي، سواء في المجال الصناعي أو الزراعي أو الصحي أو التعليمي، أن ينطلق دون كهرباء مستقرة ومتواصلة. فالمستثمر لا يضع أمواله في بيئة لا تضمن استمرارية الطاقة، والمواطن لا يستطيع تحسين مستوى معيشته دون خدمات أساسية يعتمد عليها.
وقد أصبحت خدمة الكهرباء هدفًا رئيسيًا من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أقرتها الأمم المتحدة، وتحديدًا الهدف السابع منها، والذي ينص على "ضمان حصول الجميع على خدمات الطاقة الحديثة الموثوقة والمستدامة وبأسعار ميسورة". ومن هذا المنطلق، فإن الإخفاق المتكرر في توفير الكهرباء بصورة مستقرة وواسعة النطاق في موريتانيا، لا يُعد عجزًا فنيًا فحسب، بل هو مؤشر واضح على تعثر البلاد في مواكبة التزاماتها ضمن الأجندة الدولية للتنمية المستدامة، والتي تشكّل مرجعًا عالميًا لتقدم الدول في مسارات التنمية الشاملة.
كما أن تحقيق أهداف مثل إنشاء شبكة وطنية للصرف الصحي أو تشغيل مضخات المياه، وهي مشاريع أساسية في المستقبل، يتوقف بالضرورة على توفر شبكة كهربائية قوية ودائمة. فالكهرباء هي أساس البنية التحتية لكل إصلاح مرتقب، وهي الرابط الذي يعيد الحياة لأي مشروع خدمي أو عمراني.
نحو حلول واقعية وجذرية
لا يمكن الخروج من هذه الأزمة المزمنة دون إصلاح جذري قائم على أسس علمية وخطط تنفيذية شفافة، يمكن تلخيصها في المحاور التالية:
1. توسيع قدرات التوليد باستخدام مصادر متنوعة مثل الطاقة الشمسية والرياح، خاصة أن موريتانيا تملك إمكانات طبيعية هائلة غير مستغلة.
2. إعادة تأهيل شبكة التوزيع واستبدال المعدات القديمة، وبناء محطات تحويل فرعية في المناطق ذات الاستهلاك المرتفع.
3. العمل على إنشاء بنية تحتية رقمية تساعد في ضبط الاستهلاك ومنع سرقة الكهرباء وضبط الأحمال وتوفير بيانات دقيقة للتحكم في الشبكة.
5. تشجيع الاستثمار المحلي والبلدي في الطاقة من خلال الشراكات مع القطاع الخاص، خاصة في المناطق النائية.
6. إطلاق حملة وطنية للترشيد والتوعية بأهمية الاستخدام الرشيد للطاقة، خصوصًا في أوقات الذروة.
خاتمة: لا دولة حديثة في الظلام
إن استمرار الانقطاعات الكهربائية المتكررة في نواكشوط، وفي مدن الداخل، يضع علامة استفهام كبيرة على جدية الدولة في تحقيق التنمية. وإذا لم تُدرج الكهرباء ضمن أولويات الإصلاح الجاد والمحاسبة الدقيقة، فستبقى البلاد تدور في حلقة مفرغة من الإعلانات والوعود غير المنجزة.
الكهرباء ليست رفاهية، بل شرط وجود، وحق إنساني، وأداة للنهضة. وإطفاء النور اليوم، هو إطفاء لأمل الغد.