من الغريب أن تأتى المطالبة بإصلاح قطاع الصحة من التلفزة الوطنية، والأكثر غرابة أن؟،تتحول رسالة وسيلة إعلام – يفترض أنها عمومية – إلى التشهير بمواطنين موريتانيين لمجرد التغطية على عجز الحكومة ورئيسها ورئيسه، عن إصلاح الأوضاع، كل الأوضاع المتأزمة فى البلاد.
لقد أرسلت التلفزة الوطنية رسالة (غير مشفرة هذه المرة) سيئة جدا، وغريبة جدا، وغير مبررة ولا مفهومة، عندما أعدت تقريرا غير مهني بالمرة ( لا يتحمل الصحفي الرائع محمد بدين احريمو ولا مصور وكاتب ومعد التقرير ومنتجه المسؤولية عن التقرير الذي يبدو أنه أعد جماعيا وإداريا لإرسال رسالته السيئة شكلا ومضمونا والتي تتحمل التلفزة إدارة وإشرافا كافة مسؤولياتها وتبعاتها) لتعطى عبره انطباعا للعامة بأن الرئيس وحكومته أقاما مؤسسات طبية “متطورة”، و”نهضة صحية” غير مسبوقة، لكن “جشع” الأطباء و”دمويتهم” و”انعدام الضمير المهني لديهم” و”غياب الوازع الديني” و”الوطني” و”الأخلاقي” كلها أمور تمنع قطاع الصحة من التقدم قيد أنملة لتحقيق أهدافه الكبرى..!!
إن التقرير “الصحفي” المثير للجدل يصلح نصه لامتحان الباكلوريا “غير الأدبية” فكله خطوط “تحت” و”فوق” و”أقواس” و”نبال” و”خناجر” مسمومة..!!
لقد أراد التقرير ( بالمناسبة هو أشبه ما يكون ب”محضر اتهام”) للعامة الابتعاد عن انتقاد الرئيس و”الشبيحة”، وتعليق كل المآسي والنكبات على “شماعة” اسمها عمال قطاع الصحة.
من الغباء مطالبة تلفزة “مسيطر عليها” بالكامل بحمل رسالة وطنية نبيلة ومهنية، فيجب (قسريا) أن تسخر لما خلقت له، من تلميع وجه النظام القائم عن طريق تنزيهه عن الأخطاء، وجعله فى أقصى درجات القداسة، والإنفراد بعمال قطاع الصحة المريض المنهك المنهار السيئ الصيت، لتحميلهم كل الأخطاء الممكنة، ضمن حملة ظالمة مبحوحة ومشبوهة ساهمت فى “التبشير” بها مع الأسف جهات “صحفية” رسمية المضمون مستقلة الواجهات، واستخدم فيها مواطنون أبرياء، تحدثوا بعفوية أحيانا، و” كلموا” بانتقائية أحيانا أخرى، ولم تتح مجالا لسماع رأي الذين استهدفتهم بالتشهير والتحامل والقذف “السريع” والعشوائي..!!
والواقع أنها ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها عمال قطاع الصحة، ففي فترات سابقة، وفى ظروف مشابهة، وفى مناسبات لها نفس السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، رأى القائمون على الشأن العام أنه لا بديل عن مهاجمة الأطباء وعمال الصحة، باعتبار ذلك تسلقا ل”الحائط القصير”، واستهدافا ل”الحلقة الأضعف”، وركوبا لظهور “حميرنا الخضراء”، وتكالبا على “لحم الرقبة”..!!
من الواضح أن الأمر يتعلق ب”فقاعات هوائية صوتية” تستبطن جهدا سياسيا قبليا أمنيا “مافيويا”، يراد لها التغطية على فساد قطاعات حكومية أخرى، بعضها أمني وبعضها تربوي، ومنها الاقتصادي والسياسي، وحتى السيادي..!!
فعندما يسكن اللصوص المسلحون منازل البسطاء، ويقطعون دروبهم المظلمة بالحديد والنار لتغرق المؤسسة الأمنية فى النوم والفساد.
وعندما تتأزم الأوضاع الاقتصادية درجة الحديث عن مجاعة مقبلة فى بلد من أغنى دول العالم الثالث بالثروات البرية والبحرية.
وعندما تنهب الشركات الاستعمارية ثروات البلاد، وتسرح من بقي حيا من عمالها الموريتانيين، وتعطينا سمومها لتأخذ زهرة حياة شبابنا وتدمر بيئتنا البرية والبحرية مقابل عمولات ل”على بابا” و”أربعينه”.
وعندما يسكن المظلومون والحزانى أما بوابات القصر الرئاسي لقناعتهم بأنه لا “رجل إلا علي” و”لا سيف إلا ذو الفقار” ليعودوا إلى منازلهم هرولة أمام الرجال الذين لهم “سياط كأذناب البقر”.
وعندما يتم الحديث عن فساد التعليم، رغم كثرة وزاراته وتمويلاته، والضجيج المصاحب لكل حصة بائسة يلقيها معلم منهك فى خص للدجاج يتكدس فيه مئات الأطفال الفقراء المنسيين تنخر أجسامهم رائحة العفن و تتيبس أطرافهم السفلية فى أرضية قذرة باردة شتاء حارة صيفا.
وعندما تخرج مقابر سكان شمامة من عظامهم النخرة أرزا وزرعا تتقاسمه “العصابة” فى عام “رمادة” لم يغث فيه الناس.
وعندما يختفي المهندس، والداعية، والصحفي(الحقيقي)، والدر كي، دون أن تقتفى الدولة أثرهم، أو تتقاسم الفجيعة مع أسرهم.
وعندما تزور الانتخابات لخلق برلمان قبلي جهوي طائفي لا يرضى صديقا ولا يغيظ عدوا، ولا يحقق سوى إخراج المعارضة الحقيقية قسرا من المشهد السياسي المحلي، أو القدرة على التحول إلى حلبة سرك محترف ترقص فيه “المحاورة” و”الناصحة” والناصحة” و”النطيحة” و”المعاهدة و”المتردية” و”ما أكل السبع” بين “عصا” المروض” و”جزرته”، أو حصة “إحماء” للرئيس فى انتظار الرئاسيات القادمة.
وعندما يعصف العطش بعشرات القرى، التي تنام على كنوز من المياه الجوفية فى بلد به “آفطوط” بكل اتجاهاته ومسمياته ومخزوناته.
وعندما ينهب الصينيون سمك البلاد، كما نهبه الأوربيون فى بلد يعتمد على شاطئ هو الأغنى بالسمك فى المنطقة، درجة أن يعجز”الإتحاد من أجل التصفيق” عن الحصول على “يايبوياية” واحدة منزوعة اللحم لاستمالة مواطن فقير هنا أوهناك.
وعندما تلجأ دولة يقول رئيسها أن خزينتها تضيق بالمال والذهب إلى حملات تبرع، يقال إنها للمنتخب الوطني، والراجح أنها ستستخدم للحملات الانتخابية القادمة.
وعندما تتحول الصحافة الرسمية والخاصة إلى مخيمات إيواء لمتقاعدى أسلاك الأمن، والهاربين من الخدمة.
وعندما يجعل شخص ميزانية “اسنيم” فى حقيبة جلدية، ويذهب بها إلى الداخل لاستمالة الناس وشراء الوجهاء وشيوخ القبائل والعشائر والطرق.
وعندما تغيب الدولة كيانا ومهابة ورموزا ووجودا، لإفساح المجال للفوضى الاجتماعية بتغليب قانون القوة على قوة القانون، فيتولى كل من هب ودب التطاول على الآخرين وتطبيق قانون الغاب بنفسه على الآخرين.
وعندما تعجز الدولة عن بسط نفوذها وسطوتها درجة التخلي عن مسؤولياتها.
وعندما يتطاول شخص مبتور الأصل والفرع على جناب سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المعلم الطاهر القدوة الأنقى والأغلى والأشراف والأرفع، فتدور السلطة فى الفراغ الكائن بين شريعة الله الواضحة، والقانون الوضعي الغامض والكسيح.
عندما تسوء علاقة السلطة القائمة بجيرانها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا.
عندما يحدث كل ذلك، يتم التحامل على عمال الصحة، وكأنهم “مخلوقات غريبة” و”أرواح شريرة” تزرع اليأس والشرفي “حديقة خضراء” جميلة محصنة ب”العدل” مظللة بأجنحة “ملائكة الرحمة” مضمخة ب”سلاف” فاتنات “الحور العين”، يحكمها “نجاشي” عادل لا يظلم عنده أحد، وعلى طريقة (خناقة أولادها) التي يشغل الصغار برفع أبصارهم إليها ليضربهم الكبار(تحت الحزام وفوقه)..!!
وغاية العجب العجاب أن تتولى التلفزة الوطنية تشخيص مكامن الفساد ووسم المفسدين على “الخراطيم”، وكأن الأطباء وعمال الصحة هم من تولى شراء تجهيزات التلفزة من “النحارة”، وأشرف أقاربهم و”شبيحتهم” على مسابقات “الاكتتاب”، فامتحنوا من يفوقهم خبرة وتجربة وكفاءة واستقامة وطهرا مهنيا،وكأن عمال الصحة هم من اختزل مؤسسات كانت “مستقلة” (بلحمها وشحمها وطواقمها) فى التلفزة الوطنية، بزبونية ومحسوبية واضحة كالشمس رأد الضحى،وكأن الأطباء هم من لوث الحقل الصحفي درجة مد “أذرع” فى الإعلام الذى يدعى الحرية والاستقلالية، يتم تحريكها فى أية لحظة ليس للدفاع عن “صاحبة الجلالة” ولكن للذب عن حياض “صاحبة الإدارة”..!!
إنني لا أعترض على الحديث عن فساد قطاع الصحة فهو فاسد وأقولها على مسؤوليتى الشخصية، ولدينا بعض أطباء وعمال غير مهنيين وغير منضبطين، تماما كبعض الصحفيين، وأخطاء طبية يندى لها الجبين، وجشع غير مسبوق، ولكن الاعتراض هو على استهداف العمال الأبرياء وجعلهم كبش فداء والتضحية بهم لصالح نظام عاجز بحكومة فاشلة
فلو أن الرئيس ضرب الطاولة وعاقب المسيء وكرم المصلح لصلح قطاع الصحة (بل لصلح عمال الصحة لأن القطاع برأي التلفزة على أحسن ما يرام وعلته فى عماله فقط)..!!
ألم يكن على التلفزة أن تتساءل:
هل لدى عمال الصحة ظروف عمل مناسبة..؟!!
أين المخابر والرقابة والأجهزة والرواتب والعلاوات والبني التحتية؟!!
هل نكفى الكتابة على جدران بطلاء فاخر للحديث عن مستشفيات ونهضة صحية؟!!
هل هناك أدوية موثوق بمصادرها تساعد الأطباء فى مهمتهم؟!!
هل وضعت قوانين ونظم تحدد الصلاحيات والمسؤوليات وتضع كل فئة من عمال الصحة فى خانتها الخاصة بها مهنيا ووظيفيا.. ؟!!
هل توجد عقوبة ومكافئة؟!!
هل امتلك الرئيس الشجاعة الكافية لإصلاح القطاع؟!!
هل زياراته المفاجئة فقط للمواطنين وليس لوسائل الإعلام الرسمية وطواقم الوزارة أنتجت شيئا ذا بال؟!!
لماذا لم يفصل القطاع العام عن الخاص ويخير العمال بينهما؟!!
هل كرم الرئيس طبيبا لأنه أحسن ووبخ طبيبا لأنه أساء؟!!
أين عمال الصحة الذين ماتوا بالسيدا والكبد والإسهال وغيرها من الإصابات وهم يعملون بصمت وشرف؟!!
هل تم التعويض لهم؟!!
هل تم الاهتمام بأطفالهم وأسرهم؟!!
هل ذكرهم ذاكر؟!!
هل زارهم زائر؟!!
هل توجد وزارة صحة حقيقية لها سلطة وقوة الرقابة والمراقبة؟!!
لم تطرح التلفزة تلك الأسئلة، ولن تطرحها فالتقرير( يذكرني بقصائد شعراء المديح فقد بدأ بالتغزل على الرئيس وحكومته ولمساته الإنسانية لكنه لم يخلص للمديح هذه المرة بل أساء التخلص إلى “المبغوضة” حيث أشبعها ذما وقدحا فبعد التغزل الفاحش على الرئيس وانجازاته تحركت “القصيدة” لسلق الأطباء بألسنة حداد وليس لسانا واحدا كما يخيل للبعض) جاء ليقول ” إن الرئيس قام بكل شيء والحكومة عملت بصدق ولكن عمال قطاع الصحة سيؤون ومتوحشون وجزارون ومرتزقة”، (كان من بين الذين كلمتهم التلفزة فى تقريرها اثنان معروفان جدا أحدهما “مكلف بمهمة” والآخر” مهتم بالتكليف” أحدهما رقص وطبل كثيرا فى آخر مهرجان مهم يحضره صاحب الفخامة وكأنه تم استدعاؤهما بعناية نكاية فى عمال قطاع الصحة ولإعطاء التقرير “الجرعة” الأمنية والسياسية والتصفيقية المناسبة فى بلد ليس بحاجة لممرضيه وأطبائه لتحديد الجرعات أو”صرفهأ”).
كان التقرير “نقديا” ولم يكن “ناقدا”، ذلك أنه غيب الضحية، واكتفى بالصياغة على مقاسات “الجلاد”..!!
وللتلفزة أن تفخر حقا بانتصارها على عمال الصحة، وتمكن “وحداتها الخاصة( المشوقلة)” فى الإعلام الذى يدعى الحرية والاستقلالية من الإجهاز عليهم، و يؤسفنى أنها استمالت إلى صفها الظالم “إعلاميين” كانوا إلى وقت قريب مدافعين عن الحق والمهنية والموضوعية، لكنها إكراهات “القرابة” و”الوظائف المزدوجة”، وإغراءات “الدعم” و”الاشتراك”، و”بوس”(بالحسانية وليست باللهجة المصرية) الأقارب على هامش المسابقات، وتحت طاولات الاكتتاب، وفى دروب “الزبونية” المقيتة..!!
أتمنى أن أكون قد وضعت نقاطا أرادها البعض جنب الحروف، لا تحتها ولا فوقها، حتى وإن وجدت فى الأمر بالغ الحرج، فمن الصعب أن أدخل صراعا من أي نوع بين “أخوالي” من الأطباء، و”أعمامي” من الصحافة، خاصة وأنني أكن للفريقين كل التقدير والاحترام.
لم أستطع لعب دور “الشيطان الأخرس”، فجئت هنا لأقول شيئا من حقائق هذه الضجة التي ظلم فيها “أخوالي” ظلما بواحا، على أنه ليس من عادة “الأعمام” الظلم أو التجني على الآخرين.
أنا واثق أن هذه الكلمات قد تزعج شخصا هنا أوهناك وليس ذلك هدفها يقينا.
وسأظل مقتنعا بأن التصفيق للرئيس وحكومته، والتلفزة ومديرتها قد لا يمر دائما بالتجني على عمال الصحة والتجاوز فى حقهم، فطالما شكرنا “محمدا” دون أن نسيء إلى “حليمة”..!!
وأنتظر بفارغ الصبر يوما جميلا يلتقي فيه “أخوالي” و”أعمامي” على طاولة واحدة، مستحضرين القيم المهنية والوطنية المشتركة، متعالين على الجراح، منتصرين على كل الحزازات، عاملين معا لمستقبل هذا الوطن الذى نحبه مادمنا فوق أرضه وتذوب فيه عظامنا حبا بعد أن نرحل عنه..
فلا معنى لأمل يكتبه صحفي دون وجود يد طبيب قادرة على محاربة الألم.
فلندع هذا يزرع الأمل ولنترك ذلك يحارب الألم..
ولنتذكر أن خصومات العشاق هي غالبا “فلفل وبهار”، وأن لدينا ما هو أهم من التراشق ب”التقارير” و”المحاضر”.
ولله الأمر من قبل ومن بعد