
خمسة عقود كاملة مرّت منذ أن رأت النور أولى صفحات جريدة الشعب، الجريدة الرسمية التي رافقت الدولة الموريتانية في مراحلها المتعددة، فكانت شاهدًا ومخبرًا، ذاكرةً ومرآة، وسندًا لكل من أراد أن يخطو خطواته الأولى في دروب الإعلام الصعب أو يلج عالم الإدارة والسياسة والفكر من بوابة الكلمة والصحافة.
قرأت مؤخرًا في صفحات الجريدة بعض المقالات التي نُشرتها الجريدة لكبار الصحفيين والكتاب الذين كانوا جزءا من النشأة مواكبين مسارها خلال مراحل البدايات وذلك بمناسبة احتفالها بمرور نصف قرن على تأسيسها، فوجدتني أُحاصر بفيض من الذكريات التي تعود بي إلى تسعينيات القرن الماضي، يوم كنت مصححًا بين جدران "الشعب"، قبل أن أرتقي لأكون كاتب عمود بها.
كانت تلك الفترة من حياتي الإعلامية غنية بالدروس والعبر، محفوفة بالأسماء، محفورة بالتجارب، وملأى بالمواقف التي جعلتني أُدرك عظمة هذه المؤسسة، لا بوصفها منبرًا فحسب، بل كمدرسة بكل ما للكلمة من معنى.
جريدة الشعب لم تكن مجرد مطبوعة حكومية، كما يتصور الكثيرون منا بل كانت بوتقة تُصهر فيها تجارب شباب طامح، وفضاءً يلتقي فيه القلم بالرسالة، والكلمة بالمسؤولية، والالتزام بالمهنية. خرج من عباءتها العشرات من أطر الدولة اللامعين، الذين تعلموا في أروقتها فنون الصياغة، ودقة التحرير، وأخلاقيات الصحافة. كثيرون ممن نراهم اليوم في مناصب عليا، أو ممن تقلدوا مناصب بازة ورحلوا عنا رحمهم الله كانت لهم أولى تجاربهم في بلاط صاحبة الجلالة من خلال "الشعب".
لقد عرفت الجريدة خلال مسارها تحولات عميقة، فرضتها طبيعة العصر، وتقدم وسائط الاتصال، وتغير أذواق القراء. لكنها واجهت ذلك كله بثبات وصبر، وتمكنت في وقت قياسي من مجاراة التحول الرقمي، ومن تثبيت حضورها على المنصات الحديثة، دون أن تتخلى عن رسالتها الأصلية في الإخبار والتنوير والتوثيق.
وما يضاعف من قيمتها الرمزية أنها كانت – ولا تزال – الجهاز الإعلامي الوحيد الذي استمر دون انقطاع، محافظًا على صوته وهويته، رغم ما شهدته البلاد من تغيرات سياسية واجتماعية عميقة.
لقد كانت الجريدة في كثير من اللحظات العصيبة مرجعًا، وفي كثير من المحطات الفاصلة شاهدًا، وهو ما يجعلها لا تحتفل بعيد ميلادها الخمسين فقط، بل تحتفي أيضًا بخمسين سنة من توثيق التاريخ الوطني. ومع ذلك كانت مبرا شهد فضاؤه كتابات فطاحلة مثقفي البلاد وشعرائها وسياسييها مسطرين عبر صفحاتها كمًا نفيسا من المأثور الثقافي والاجتماعي والسياسي.
إنني اليوم، وفي هذه اللحظة الفارقة، لا أملك إلا أن أُسجّل شهادة في حق هذه المؤسسة، التي ساهمت في تكويني المهني، ورافقتني في خطواتي الأولى، ولا يسعني إلا أن أقول: هنيئًا لجريدة "الشعب" في عيدها الذهبي، وهنيئًا للزملاء وطاقمها الإداري الذين يسهرون على استمرارها، ويذللون الصعاب من أجل أن تبقى منبرًا وطنيًا شامخًا، وشاهدًا صادقًا على محطات الوطن وتاريخه.
تمنياتي الصادقة لها بمزيد من النجاح والتألق، ومواصلة أداء رسالتها الإعلامية النبيلة بعزم وإخلاص، كما عهدناها دائمًا.
حمود ولد أحمد سالم ولد محمد راره.