إن إشكالية العبودية، والنقاشات التي تثير في الساحة السياسية، والنضالات التي تشعل وتغذي؛ تعالج بكثير من السطحية والمغالطات لدرجة تفقد تلك المساعي وتلك الجهود القوة والفاعلية التي كان يمكنها أن تحدث للدفع إلى إيجاد حل للقضية أو التقريب منه.
وتختلف الدوافع لمتناولي القضية من حيث الجدية أو عدمها، تبعا لمواقفهم من المشكل : أكانوا من الجادين في المساهمة لإيجاد حلول له، أو كانوا من المعتمين عليه رغبة في الدفاع عن ممارسة العبودية، والإبقاء عليها، ولو مخفية تحت القناع.
لم يتفق البشر يوما على موقف موحد من قضية مهما كانت وجاهتها أو صدقها، مما جعل لكل قضية مناصرين ومناهضين. و السبب هو أنه ما وجدت مأساة إلا وكان هناك من يستفيد منها؛ سواء كانت تلك المأساة مأساة عبودية، أو اضطهاد بسبب السياسات الإقطاعية أو تمييز عنصري يعاني منه جزء من المواطنين. كل النضالات التي عرف العالم وعرفتها الإنسانية وجدت رجعيين، ممانعين ومقاومين، دفعوا بجهودهم عكس التيار، وحاولوا بشتى وسائل القمع والاضطهاد للإبقاء على الممارسة الظالمة المنتفض ضدها، حتى أوصلهم ذلك إلى القمع الفكري والجسدي و قتل ضد المناضلين سعيا لقتل قضيتهم. لقد سجن نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا، وشرد وأنفى واغتال، مناضلين وقيادات كثر سبيلا لإيقاف عجلة الزمن والإبقاء على نظام "الأبرتايد" الذي كانت تمارسه الأقلية البيضاء الحاكمة ضد السود. وفي أمريكا اضطهدت الأنظمة الرجعية مدعومة بتجمعات ومنظمات عنصرية، التي اشتهرت من ضمنها منظمة "الكوكلوكس كلان"، التي يرتدي أفرادها زيا ابيض وأقنعة بيضاء لدى مهاجمتهم للمناضلين المناهضين للعنصرية أو لدى مهاجمتهم للسود بصفة عامة. ولقد نكل الإقطاعيون و أنظمتهم التي تتالت على السلطة، وسجنت، وجردت، ومنعت من الترقية، المناضلين المناهضين للعبودية في بلادنا ولا زالت.
وهكذا لازالت النخب الظلامية والحكام الإقطاعيين يقاومون بالتحايل والتلاعب بشتى الوسائل الفكرية والسياسية لكبح التيار الجامح، الدافع نحو العدالة ومساواة الظروف الاجتماعية بين البشر. ذالك التيار الذي بدء كفكرة يتيمة، تولدت لدى المضطهدين والمظلومين، منتصرين بها من البطش الذي يعانون منه داخل مجتمعاتهم؛ قبل أن يتبناها الفلاسفة والمفكرون، وينظروا لها لتصبح فكرا جديد وغاية لمستوى التعامل بين الناس لرفع مستوى الإنسانية واحترام قيم الأخلاق وحقوق الإنسان. هذه الفكرة التي بدأت ضعيفة، وهدف لدى المستضعفين؛ والتي أصبحت اليوم النموذج والمرجعية لدى الدساتير والشعوب و الهيئات الدولية، وكذاك الدول والأحزاب ومنظمات: إنها فكرة العدل والمساواة التي جاء بها الرسل من عند العدل والحق فكانوا أول من دعي الخلق للمساواة والعدالة وتكريس حقوق الإنسان والمساواة في الحقوق والواجبات. فهل يعقل أن يكبح وعد الله بالانعتاق والعدالة، من طرف عصابات من ترسبات آخر الزمن المُتَبَرْبِرِ؟ وهل من المنطقي أن توقف العجلة بعد ما دهست الأباطرة والملوك والسلاطين وفيالق "الهنتس" والبربر والتتار، وحولت كل تلك الأحكام الموغلة في البطش الدموي إلى أنظمة ديمقراطية ديدنها اليوم ثقافة وعدالة حقوق الإنسان؟ أ يعقل، أن يكبح جماح العدالة والمساواة بين الناس وثقافة حقوق الإنسان، اليوم، بعد ما أصبحت هي الأقوى والسائدة وخصومها الظلاميين، هم الأضعف ناصرا والأقل عددا؟
من هنا، تسللت "اجماعة" - برنامج من التلفزيون الوطني - تحت خيمة من الوبر القاتم، يدور فيه بيت الشعر و"الكاف" بين فتية أدان الزمان لهم، فلم يكترثوا لأوضاع الناس فيه ولا بمستوى الانعتاق الذي أوصلهم. يتداولون "كيفان" من الشعبي وأبيات من الفصيح؛ فتية سلائل صفوة الزمن الحليك، تدير بينهم كأس شاي عتمة، تجسيد للظلم المقيت، جزء من الديكور، تم اختياره لذات المغزى الذي تم اختيار خيمة الوبر له وكذا اختيار طريقة جلوس الندامى تحتها. يداولهم الكأس تارة، جسمان غير معني ب"الكاف" ولا بالبيت الشعري، لا مقصد لوجوده ولا معنى، إلا أن تكون به العبودية حاضرة، سمراء، صامتة لجهلها، ومعبرة كجزء من ذلك الطلل الممجد في ذلك المبكى السخيف.
هنا أيضاً، تتجلى عبقرية نخبة الظلام في تجميدها للعبودية وإحضار ها كجزء من الديكور دون ذكرها، والبكاء عليها كجزء من ذلك الطلل البعيد، الذي كنت أنا فيه ولا زلت جزءا من بقايا الدار، يبكي علي المُتباكِي كما بَكَى باكِي "عزة" والباكي على قبر أميرة الروم المنصوب بسفح عَسِيبْ.