هل يُنهي فخامةُ الرئيس مظلومية التوظيف / د.أمم ولد عبد الله

في العادة يبدأ الظلم بشعور انفعالي ليتحول بسرعة إلى فعل يشتغل خارج منطق المصلحة العامة، ثم يتطور ليصبح نهجاً مؤسساتياً ترعاه جماعات بعينها، مستخدمة الخطاب الشرائحي والجهوي، لتحويله إلى  جسر صلب يتسلق من خلاله كل الانتهازيين، دون أن يدركوا أنهم تركوا جروحاً نازفة تسببت في الغالب في تهجير عقول، وربما في تحويل أناس طيبين إلى مجموعة من الأشرار تسعى للانتقام من كل ماله علاقة بالدولة، تاركة صدى الآلام  ينتقل عبر سردية الحقد الأزلية بين الأجيال.
لقد نبه ( دارون أجمو جلو وجيمس روبنسون) في كتابهما " لماذا تفشل الأمم" إلى خطورة وجود مؤسسات إقصائية تُدار من قبل نخب تحتكر الامتيازات، مُحدثة شروخاً عميقة داخل مجتمعها، فقد توصلت إحدى الدراسات -التي لم تنشر بعد-، والتي قم بها باحثون حول: "المظالم المُعلقة في موريتانيا: الأسباب والمخاطر المستقبلية"  إلى أن ثمة  لوبيات تعمل على مأسسة الظلم وترسيخه في كل مفاصل الدولة، معتمدين على شبكات مُعقدة ترتكز على الدعاية والإغراء كأداة لترسيخ نفوذها.
ضمن مائة عينة من المظالم المدروسة، لاحظوا وجود تشابه في الأساليب التي تأخذ منحنى  تدريجياً يبدأ بالإقصاء المبكر  من خلال المنع من التدريب في مؤسسات مهمة للخريجين، ومنحه  لأفراد بعينهم وفقا لمعايير القرابة والجهة والولاء والشريحة وغيرها، والأمر ذاته ينطبق على غالبية وظائف التعليم العالي، حيث تتم التهيئة للاكتتاب، طبقاً للمعايير ذاتها في الغالب، أما الوظائف المخصصة للوكلاء العقدويين للدولة، فإنها تحتاج إلى دراسة مستقلة للوقوف على حجم التجاوزات بحسب الدراسة نفسها، الأخطر في الأمر هو العمل الممنهج على التضييق على أصحاب الكفاءات الذين وصلوا لوظائفهم بصورة شفافة، بهدف خلق شعور لديهم بعدم الجدوائية لدفعهم للاستقالة، أومغادرة مكان الشغل نظير دفع رواتبهم، وهو ما من شأنه تسهيل عملية فصلهم تحت طائلة تطبيق القانون المتعلق بمغادرة الموظف لمكان عمله دون مبرر. 
 خلال تجربتي المتواضعة في المِهجر التقيت بالعديد من الموريتانيين الأكفاء الذين يتقاسمون الشعور ذاته، وعند حديثهم عن أسباب التهجير، كما يفضلون أن يصفونها، ينتابك شعور بأنهم يحملون هما سرمدياً لا يزال يُنغص عليهم حياتهم، رغم أنهم يتقاضون آلاف الدولارات شهريا، ومع ذلك فإن واقعهم ينطبق عليه نفس الوصف الذي  قدمه زهيرابن أبي سلمى (ت 602م) منذ مئات السنين ولم يكتب له أن يلقى اهتماما في أوساط الباحثين المهتمين بالعلوم الإنسانية، رغم أن صاحبه قدم تفسيرا منطقيا  لدرجات الظلم، حيث استطاع تصنيفها على أساس نوعية القرابة ، "وظلم ذوي القربى أشد مرارة"  .
ليس سراً أن تلك المرارة أثارت ردة فعل القوى العاملة في البلد، حيث لجأت إلى الشارع في تعبير مركز عن رفضها لهذا النوع من المسلكيات، فقد شهدنا خلال العشر سنوات الماضية، تنظيم الكثير من الاحتجاجات رفضا للزبونية و المحسوبية في الاكتتاب في الوظائف سواءً في القطاع العام أو الخاص، كما تم رفع دعوات أمام المحاكم المختصة في قضايا من هذا النوع، ويُعد إلغاء نتائج اكتتاب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي نتيجة طبيعية لتذمر الرأي العام المحلي من ظاهرة الاكتتاب خلف ستار النفوذ المزعج.
بدأ فخامة الرئيس بالتعامل الجدي مع أسباب ظاهرة "الاكتتاب العشوائي" من خلال التعميم الأخير الذي أصدره معالي الوزير الأول والحامل للرقم: 00006 بتاريخ 20/06 /25 والموجهة للسادة الوزراء ، حيث عكست الفقرة الأولى منه وعيا عميقا بالخلل المترتب على الاكتتاب العشوائي، الذي يعتبر أحد الدعائم الأساسية لنهج الظلم المقنن في التوظيف  الذي كان السبب في إحداث شرخ عميق بين فئات المجتمع من جهة وبين الحاجة الأساسية للمؤسسات من جهة أخرى، التي استنزفت موازناتها دون أن ينعكس ذلك على تحسين أدائها، بمعنى  أن التوظيف شكل عبئا عليها، أكثر من كونه أحدث إضافة نوعية في أداء طواقمها البشرية، كما نص على ذلك التعميم  المذكور أعلاه " إن الحالة التي أنتجتها الاكتتابات العشوائية والتعاقدات الفوضوية في المرافق العمومية، خارج الأطر والمساطر القانونية...تسببت في إقصاء كثير من المواطنين المؤهلين.."
يتضح من هذا التعميم أن ثمة إرادة جادة تعمل وفق خطة زمنية محددة للقضاء على ظاهرة المظلومية في الوظائف، وفي هذا الصدد يأتي إنصاف المتعاونين مع الإعلام العمومي، وعمال الشركة الوطنية للكهرباء، وثمة إجراءات متقدمة لتسوية وضعية ملفات أخرى كانت مظالم أصحابها حبيسة الإهمال، وغياب الإرادة الصادقة لدى مَن حكموا هذا البلد في فترة ما قبل العام 2019،  وبين جدية النظام والفترة الزمنية المتبقية لمأموريته وتغلغل الأقطاب التي تعمل بجد ضد  سياساته في هذا المجال، يبقى السؤال مطروحاُ، هل سيُنهي غزواني ملفاً بهذا التعقيد خلال ثلاث سنوات فقط؟...
 

15. يوليو 2025 - 10:02

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا