لقد تميز الرئيس محمد ولد عبد العزيز عن الرؤساء الذين سبقوه لإدارة شؤون هذه البلاد بالميل إلى التواصل المباشر مع الناس و النزوع إلى الاحتكاك بهم عن كثب بغية الإطلاع عن طريق المعاينة الفعلية على مجريات الأمور كما هي على ارض الواقع لا كما تصفها التقارير و المعلومات الإستخباراتية.
و يتجلى هذا الهاجس في الحرص على الوقوف الشخصي دون وسيط على تفاصيل الشؤون التي يريد استكناهها و سبر أغوارها. في هذا الإطار تندرج الزيارات المباغتة التي يقوم بها لبعض مرافق و مؤسسات الدولة و مهرجاتنات لقاء الرئيس و الشعب و مهرجانات المدن التاريخية و غير ذلك من أساليب الاتصال بالجماهير.
و في ذات الإطار تتنزل فعالية اللقاء المباشر الذي سوف يتم في غضون الأسابيع المقبلة بين رئيس الدولة و نخبة متميزة من الشباب الراغب في التعبير عن آرائه و تصوراته حول سبل و طرائق النهوض بالبلاد على مختلف الصعد.
و الذي تنفرد به هذه الفعالية عن غيرها ، هو كونها عملا نابعا من إرادة مجموعة من الشباب الجامعي و نشاطا هادفا في الأساس إلى تحقيق طموح هذه المجموعة الشبابية في الإسهام في النهوض بالبلاد على جميع الصعد ، وذلك بعيدا عن أي اعتبار إيديولوجي معين أو هدف سياسي محدد أو غرض حزبي ضيق. و من هذا المنطلق أخذت هذه المجموعة على عاتقها الإعداد لهذا اللقاء الذي سيجمعها برئيس الجمهورية بصفته المسئول الأول عن سيرورة ومصير الوطن.
وحسب المعلومات المتوفرة عن هذه المجموعات الشبابية، فإنها لا تسعى إلى إنشاء كيان سياسي ذي توجه وولاء محددين بقدرما ترمي إلى خلق إطار تشاور و تفاكر و و تفاعل مع السيد رئيس الجمهورية حول كل القضايا الوطنية و الطرق الملائمة لمقاربتها قصد تحديد معالم الحلول التي تتطلبها.
و ما سوف يضفي على هذا اللقاء أهمية خاصة و يعطيه زخما متميزا هو تلاقي إرادة هذه المجموعة الشبابية المؤهلة تأهيلا عاليا و إرادة رئيس الجمهورية قصد التذاهن التلقائي و النقاش المعمق الصريح و التفاعل الرصين الممنهج، ليس فقط حول القضايا الخاصة بالشباب، و لكن كذلك حول مختلف جوانب الحياة الوطنية مثل: التعليم و بناء رأس المال البشري و التوزيع العادل للموارد الوطنية ، و إصلاح الإدارة و تقريبها من المواطنين،و محاربة الفساد،والسعي إلى تعميم الولوج إلى الخدمات الأساسية ، و الحفاظ على السلم الاجتماعي و الأمن القومي، و تعزيز المؤسسات الديمقراطية و توطيد الحاكمية الحسنة و توسيع إشعاع البلاد الفكري و نفوذها السياسي و تموقعها الإستراتيجي على المشهدين الجهوي و الدولي ، و العمل على تقوية الجبهة الداخلية و توحيد جهود كل القوى الوطنية الحية من أجل تسريع وتيرة الحداثة وتهيئة الأرضية الملائمة لقيام مجتمع المعرفة القادر على رفع تحديات العولمة و كسب رهانات العصر القائمة على العلم و التقانة و النجاعة في كل تجلياتها... و ما هذه الأمور إلا غيض من فيض مما قد يثيره الشباب مع السيد رئيس الجمهورية من إشكاليات هو أدرى بها و أكثر إلماما بأبعادها و تداعياتها على الوطن.
وفي هذا المنظور لا يستبعد أن يثير الشباب مع السيد الرئيس أوضاع التعليم و ضرورة الإسراع بإصلاحه بما يكفل إعداد الموارد البشرية الضرورية لتلبية حاجيات و متطلبات الاقتصاد الوطني و مقتضيات البحث العلمي بشقيه الأساسي و التطبيقي في مجالات التكنولوجيا و العلوم الدقيقة و الفنون و الآداب و التراث بمختلف أصنافه.
و لا ريب أن بحث وضعية التعليم في البلاد سيقود إلى الحديث عن الضرورة الملحة لمهننة وحرفية و نفعية التعليم و التربية و التكوين و عن الأهمية الإستراتيجية لتعزيز تدريس العلوم الصحيحة و الرياضيات و المعلوماتية و التقانة و الفلسفة و عن محورية تحويل المؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها إلى مخابر للأفكار الجديدة و بؤر للابتكار و الاختراع و مشاتل لاستنبات و تعهد و مواكبة المواهب و العبقريات الخلاقة في كل المجالات.
ولا مناص من أن يقود التذاهن مع السيد الرئيس إلى إبراز التعالق الوطيد بين عملية الارتقاء بالبحث العلمي و تكثيف إنتاج المعرفة و بين ترقية الثقافة في مفهومها الواسع الذي يشمل إضافة إلى العلوم الدينية و اللغوية و الإنسانية ، الفنون الجميلة كالرسم و النحت والرقص و الموسيقى و المسرح و السينما و الفلكلور و فنون الطهي و الفندقة و الخياطة العليا و العمارة و الزخرفة و ترتيب المساحات الخضر )ء le paysagisme ( ....ولا يخفى على أحد ما لهذه الأبعاد الثقافية من إسهام في التنمية الاقتصادية و النهوض الاجتماعي و الارتقاء بالذائقة السليمة و الحس الجمالي المرهف و مستوى التمدن و التحضر.
و ترقية هذه الأبعاد الثقافية التي تعتبر بحق رافعة اقتصادية قوية و عامل تنمية فعال، تتطلب إقامة منشآت مختصة ،لعل من أهما مسرحا وطنيا ومعهدا عاليا للفنون الجميلة و كونسرفاتوار للموسيقى و الفنون الأدائية، و مؤسسة وطنية لترقية السينما كأداة للتعريف بثقافة و تراث و تاريخ البلاد و خصائصها الحضارية.
ولا يستبعد كذلك أن يتطرق الحوار بين الشباب و السيد الرئيس إلى السبل الكفيلة بتفعيل الإدارة و تقريبها من المواطنين و تحويلها إلى أداة فعالة للتنمية، و إلى الأساليب الناجعة للمحاربة الممنهجة للفساد و إلى طرائق تعزيز الحكامة الحسنة و اعتماد توفر الكفاءات و الخبرات في إسناد المهام و المسؤوليات في دوائر الدولة و مرافقها ، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، و تطبيق مبدأ المكافئة و العقاب.
وقد يتم التطرق أيضا خلال هذا الحوار إلى ضرورة تقوية المكتسبات في مجال الحريات العامة و صيانة حقوق الإنسان و الفصل بين السلط و علوية القانون و الحفاظ على المؤسسات الدستورية و توطيد تجربة البلاد الديمقراطية.
و من الوارد أن يطال التفاكر بين الشباب و السيد الريس إضافة إلى ما قد سبق ذكره إشكالية السلم الاجتماعي و الأمن القومي. الشيء الذي قد يجر إلى استعراض ما قد أنجزته الدولة في مجال تصفية آثار الإرث الإنساني و رواسب العبودية و كذا الجهود المبذولة من أجل معالجة الأوضاع الهشة للفئات التي تعاني من التهميش و الحرمان . بالإضافة إلى المجهودات الإضافية التي ينبغي القيام بها في هذا المضمار لتدارك ما هو موجود من إقصاء و غبن لبعض الشرائح الاجتماعية في البلاد. الشيء الذي قد ولد سخطا عارما و غضبا أهوج قاد أحيانا إلى إعمال غير حصيفة و غير مقبولة مثل شتم العلماء و التجديف و الهرطقة و حرق بعض أمهات الكتب الإسلامية و العبث بالمصحف الشريف و التعرض بالأذى لشخص الرسول الكريم و غير ذلك من التصرفات الطائشة.
إن الشعور بالغبن شعور طبيعي و الغضب الذي ينجر عنه وارد و مفهوم و لكن التعبير عن هذا الغضب ينبغي أن يعتمد أساليب مقبولة لا تمس مقدسات الأمة و قيمها الروحية و مشاعرها الدينية وإلا أدى ذلك إلى نتائج معكوسة و قاد إلى ردات فعل سلبية من الأفضل تفاديها و اتقاء تداعياتها.
و من الوارد أن تتقاطع رؤى الشباب و رؤى السيد الرئيس و تتكامل حول ضرورة توعية و تثقيف و تشغيل الشباب و دمجه في أنشطة اقتصادية ذات مرد ودية ، لتجنيبه الفراغ و البطالة و اليأس و النقمة التي قد تدفعه إلى الانخراط في المغامرات الغير محسوبة العواقب و الالتحاق بشبكات الجريمة و المنظمات لإرهابية الهدامة التي تقيمها و تتعهدها قوى الظلام التي تسعى جاهدة إلى العودة بالأمة الإسلامية إلى القروسطوية و سيطرة العقل الخرافي و التخلف مظهرا و مخبرا وذلك في عز القرن الواحد و العشرين، الذي يتسم بانفجار ثورة المعلوماتية و التطور المذهل في مجالات الذكاء الاصطناعي و تطبيقاته المتنوعة مثل (الروبوتية) ( la robotique) و السيبرنيطيقية ( la Cybernétique ) و الأجسام السيبرنيطيقية ( les Cyborgs) المجسدة للتكامل و التلاحم بين الإنسان و الآلة.... و كل هذا أمسى واقعا معاشا بعد أن كان خيالا علميا بحتا .
في ظل هكذا ظروف و ما يواكبها من مقاربات استشرافية و تفكير استراتيجي و تسيير مستقبلي للأمور و تأهب لغزو الكواكب و الأجرام من أجل استغلال ما تحويه من موارد و ثروات معدنية , في ظل هكذا ظروف، لا يمكن لشباب متنور، واع وعقلاني أن ينضم إلى قوى ظلامية متغولة تعتمد العنف و الإرهاب للعودة بالأمة الإسلامية إلى ماض سحيق في عهد تتنافس فيه الأمم الأخرى على احتلال مكان الصدارة و تسنم موقع الريادة في كل المجالات.
ولن يكون من المستغرب أن يمتد النقاش بين الشباب و السيد الرئيس إلى الأهمية الإستراتيجية التي يكتسيها إشعاع البلاد الثقافي و نفوذها السياسي و تأثيرها الدبلوماسي في التعريف بها عالميا و في تموقعها على الساحة الدولية، سيما و أن بعض إرهاصات هذا التحول الذي ستعرفه البلاد بدأت تلوح في الأفق إثر تراكمات قد تم الإحراز عليها و رسملتها و توظيفها .
و التي كان من بينها نجاح عملية التحول الديمقراطي في الوطن و تحقيق السلم الاجتماعي و الاستقرار السياسي به و الإسهام في محاربة الإرهاب على الصعيد الجهوي و الحصول على ثقة الممولين و تدفق الاستثمارات إلى البلاد. و تم تتويج هذه التراكمات بانتخاب بلدنا رئيسا للدورة الثانية و العشرين للاتحاد الإفريقي فحصل بذلك على ثقة دولية معتبرة كان لها دخل كبير في نجاح موريتانيا في احتضان القمة المؤسسة لمنظمة دول الساحل و تقلدها رئاستها.
وقد يفضي حوارا لشباب و السيد الرئيس إلى اتفاق الجانبين على أن أنجع طريقة لتوظيف هذه النجاحات المضطردة من أجل تقوية الجبهة الداخلية الموريتانية و توطيد السلم الاجتماعي و توحيد جهود كل القوى الوطنية الحية بغية الإسهام الجماعي في عملية بناء الوطن و حمايته من المخاطر الخارجية التي تتهدده، هي إقامة حوار إيجابي و بناء بين كل مكونات الطيف السياسي الموريتاني و ذلك من خلال تجاوز عقلية التعنت والمكابرة و المكايدة. و إبدالها بذهنية التفاهم و التلاقي و الوئام و بذلك " نمير أهلنا و نحفظ أخانا و نزداد كيل بعير".