قراءة نقدية في كتاب (أزمة الفقه السلطاني في القرن 21) / محمد محمود ولد الكوار

محمد محمود ولد الكوار(إشكالية الطاعة في عصر الثورة)

صدر عن المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الإستراتيجية قبل فترة كتابا بعنوان: أزمة الفقه السلطاني في القرن 21: إشكالية الطاعة في عصر الثورة. لمؤلفه الدكتور المفكر محمد المهدي محمد البشير. تدور فكرة الكتاب حول معالجة موضوع قديم جديد هو "نظام الحكم السياسي في الإسلام" وذلك ضمن محاولات

واجتهادات فقهية متعددة ظهرت إلى العلن بالتزامن أحداث الربيع العربي،  سعت جميعها لإيجاد مبررات شرعية لظاهرة تتنزل فقهيا في إطار قضية "الخروج على الحاكم". الكاتب "محمد المهدي" سعى إلى توظيف آراء هامشية قديمة في الفقه الإسلامي بالإضافة إلى آراء "إسلاميين" معاصرين  لتبرير وجهة نظره حول هذه القضية ، ومع أن الكاتب حاول في مباحث الكتاب الخمسة ألا يغفل أي نص يسند طرحه إلا أنه  وقع – في نظرنا – في عدة مغالطات منهجية تحليلية دفعتنا إلى عرضها على النحو التالي:  

ملاحظات عامة:

 

-ـ التباين بين حجم الكتاب والقضية التي يعالجها:  من الأمور الملفتة أن هناك بون شاسع بين حجم الكتاب وبين اتساع الموضوع الذي يتناوله ، ففي حين أن الكتاب لا يتجاوز حجمه 182 صفحة من الورق المتوسط نجد أن القضية التي يعالجها تحتاج إلى مجلد ضخم إن لم يكن عدة مجلدات، خصوصا وأن الكاتب يحاول دحض ما استقر عليه عموم الفقهاء منذ العصور الأولى للتاريخ الإسلامي.

- عدم تحديد المفاهيم:

تناول الكاتب بعض المفاهيم بصورة ضبابية ولم يقدم تعاريف محددة لبعضها، ولم يفرد مساحات لتأصيلها لغويا واصطلاحا، خاصة مصطلح "الفقه السلطاني" الذي هو موضوع الكتاب. فلا نجد توضيحا شافيا لهذه المسألة. وبذات الطريقة تعامل الكاتب مع مفاهيم أخرى مثل "الأمة" و"السياسة" و"الحاكم" " ونظام الحكم".

- التكرار البيّن للمواضيع : هناك تداخل وتكرار للمواضع بين مباحث الكتاب، مثل حديثه عن خصائص النظام الإسلامي في المبحث الأول وحديثه عن مقومات الدولة الإسلامية في المبحث الرابع ، مما اضطر الكاتب إلى تكرار ذات المواضيع كموضوع الشورى مثلا .

ــ المبالغة في الاستشهاد ببعض الكتاب:

مثل فتحي الدريني والماوردي، حتى لا تكاد تقلب صفحتين أو ثلاثة دون أن تجد إحالة يشير فيها إلى أحدهما.

وإذا كانت تلك مجرد ملاحظات منهجية عابرة لفتت انتباهنا في الكتاب ، فإن محتواه لم يخل من عثرات وسقطات وطرح غير مبرر تعوزه الموضوعية والإسناد القوي، مما يولّد انطباعا مباشرا لدى القارئ أن هناك انتقائية تعسفية للنصوص مارسها الكاتب لتحقيق غرض ما . ونتيجة لهذا الأسلوب اللاموضوعي لجأ الكاتب إلى الإيجاز المخل والابتسار الواضح، وليس ذلك في نظرنا إلا هروبا من النصوص الدينية التي تحاصره، لذا نجده يكتفي بأقل من نصف صفحة لقضية هامة مثل " حق الأمة في عزل حاكمها"  ، فيبدأ حديثه بالنتائج قبل أن يؤصل للموضوع فيقول " تعطي النظرية السياسية الإسلامية للأمة حق عزل حاكمها إن رأت أن المصلحة تقتضي عزله".(ص 35). ولم يجد ما يسند به هذه النتيجة سوى وصية الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للمسلمين بضرورة إسناد المشورة لهما ، مع أن ذلك لا يحتمل بوجه من الوجوه حق "العزل". وحتى الحادثة الأخرى التي أشار إليها وهي أن أهل الأمصار طلبوا من الخليفة عمر عزل بعض الولاة ، فهي تدخل في باب "التطويع الغرضي" للأحداث التاريخية ، فولاة الأمصار في عهد الخلفاء لم يتم اختيارهم وفق مبدأ الشورى ولم يبايعهم الناس على تولية الأمر، فهم معينون من طرف الخليفة ، وليس مطالبة أهل الأمصار بعزلهم سوى حق يندرج ضمن حقوق المسلمين على الخليفة (الحاكم). وما رضوخ عمر رضي الله عنها لهذا الحق ومطالبة المسلمين له به سوى تطبيقا لمبدأ الشورى ، وهو ما ينفي ما ذهب إليه الكاتب من أن "المسلمين تركوا مسألة التزام مبدأ الشورى للوازع الديني عند الحاكم" (ص 14).

مغالطات فكرية وتناقضات تحليلية:

إن الجهد المضني للمؤلف الذي حاول من خلاله تبرير مسألة الخروج على الحاكم اضطرته  إلى الوقوع في مغالطات وتناقضات تحليلية متعددة، ومنها:

- تجاهله للأحاديث الصحيحة والصريحة التي تضبط هذه القضية ، فلا نجد لها ذكر  في سياق حديثه عما سماها "النظرية السياسية الإسلامية". ولكنه يخصص لها مساحة في المبحث الخامس لإبطال مفعولها وتفنيد آراء جمهور الأمة أو "فقهاء السلطان" كما يسمهيم، حولها. فيقول إن من يتأمل في الأحاديث الواردة في وجوب طاعة الحاكم يجد أنها لا تخرج عن أحد قسمين : قسم وارد في طاعة أمراء السرايا وقسم يتعلق بالمستقبل وزمن الفتن". (ص 144) وبعد أن يورد أمثلة من القسم الأول يقول إنه "لا دليل فيها على طاعة الحاكم" لسببين : الأول أنها وردت في سياق الأمر بطاعة أمراء السرايا التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبعثها، والسبب الثاني: أنها طاعة تنحصر في الأمر بالمعروف". (ص145) . إن حجج الكاتب هنا في تحييد هذه الأحاديث تترتب عليه نتائج خطيرة ربما لم ينتبه إليها ، وهي أن إسقاط هذه الحجة على بقية الأحاديث وحتى على الآيات القرآنية، سيعطل الكثير من أحكام الشريعة الإسلامية، ومن هنا كانت القاعدة الفقهية المعروفة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" لا غنى عنها لأنها تخرج الأحكام الشرعية ، سواء في الكتاب أو السنة، من أطر الزمان والمكان لتكون الرسالة المحمدية خطابا موجها إلى البشر جميعا منذ بعثته عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولم تكن مساعي الكاتب لاستبعاد "أحاديث الفتن" أكثر توفيقا ، فقد فتّش لكل حديث عن علّة أو سبب واهٍ يمنع الاستشهاد به، كأعتراضه على حديث "عبادة ابن الصامت" المتفق عليه، إذ يرى أنه "يتعلق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي طاعة تقوم في مجال الوحي على الإتباع  ، وفي مجال الاجتهاد الدنيوي على الشورى" (ص150). وهذه الحجة شبيهة بتلك التي ردّ بها الأحاديث السابقة ، حيث قصر "الطاعة" على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ليست مهمة الحاكم أو ولي أمر المسلمين، هي تنفيذ ما جاء به رسول الله من أوامر ونواهي ربانية ، أو لم تنص الآية الشريفة على ذلك صراحة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). ثم إن الجزء الثاني من الحديث الذي لم يورده الكاتب ولم يعلق عليه، يكشف بوضوح أن الخطاب النبوي موجها إلى الصحابة ومن ثم إلى الناس كافة بوجوب طاعة أولياء الأمر عموما ، حيث يقول " .. على أن لا ننازع الأمر أهلهُ إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان". وهذا دليل صريح لا يقبل الجدل ولا يحتمل التأويل يحدد بوضوح متى يحق للناس خلع الحاكم.

 

وهكذا استنادا إلى هذا الحديث الشريف وغيره من الأحاديث الضابطة، أجمعت الأمة على حرمة الخروج على الحاكم المتغلب إلا إذا بدا منه كفرا صريحا ، وفي ضوء السنة الصحيحة وإجماع الأمة الذين أطرا قضية الخروج على الحاكم وفصلا شروطها وأحوالها وبينا العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، يصعب علينا أن نقبل ما ذهب إليه المؤلف من أن "الشريعة لم تضع أحكاما تفصيلية في المجال السياسي" ، بل يصعب علينا أكثر من ذلك أن نبتلع قوله بأن العلة من ذلك هو أن المسلمين سيقعون في حرج شديد مع تطور الزمن ، وتقدم العلوم واتساع المعارف البشرية ، لأنهم سيكونون أمام نصوص صارمة تمنعهم من تكييف أنظمتهم وفق ما تتفق عليه عبقرية الإسلام من نظم سياسية". (ص 38). ولا نجد في هذا النص أقل من اتهام صريح بأن الشريعة ليست مصلحة لكل زمان ومكان، وان المسلم قد يقع في الحرج مما أوجبه الله عليه.

 

- تناقض وتهافت الأدلة: من مظاهر التناقض التي وقع فيها الكاتب وهو يتناول "خصائص النظام السياسي في الإسلام"  هو ركونه إلى الاستشهاد بالقواعد التي يحاول دحضها، ومن ذلك أنه جعل إجماع الأمة مصدرا للتشريع (35) بينما لا يعترف بصحة هذا الإجماع عندما يتعلق الأمر بوضع ضوابط للخروج على الحاكم كما أشرنا إلى ذلك آنفا. وفي محاولة منه لتبرير النتائج التي غالبا ما يفاجئ بها القارئ دون مقدمات تأصيلية في أكثر من نقطة، يعمد إلى ترويض بعض النصوص القرآنية والأحاديث والوقائع التاريخية ووضعها في سياقات مختلفة تماما عن مدلولاتها ، كاستشهاده بقوله تعالى "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر" . معتبرا أن ذلك دليل على " مناقضة الإسلام لإقامة الحكم على أساس القهر" (ص 39). مع أنه لا يمكن نفي السيطرة هنا أو القهر، الا إذا كانت في إطار رفع الإكراه عن الناس في قناعاتهم الدينية ، وهو ما تؤكده آية أخرى محكمة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ). أما في أحوال الحكم وتدبير شؤون الأمة ومنع الفتن فالسيطرة هنا مطلوبة بل واجبة شرعا.

 

أيضا عمد الكاتب إلى توظيف نصوص كثيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رغم أنه يعتبره أحد فقهاء السلطان ، ويرى أن كتابه المشهور (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) هو أحد الكتب السلطانية ، ومع ذلك نجده في موضع معين يناكف أحد الفقهاء برأي لإبن تيمية يقول فيه " إن بيعة عمر رضي الله عنه لم تنعقد إلا بمبايعة المسلمين له". وهو رد على الماوردي الذي يعتقد أن "بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة"(ص 109). ولا شك أن هذه الإنتقائية في آراء ابن تيمية تؤثر سلبا على مصداقية الجهد الذي بذله الكاتب، هذا إن لم تكن سببا في وصمه بالتناقض . وواقع الحال أن انتقائية الكاتب لم تقتصر فقط على اختيار نصوص بعينها لفقيه بعينه بل شملت قائمة الفقهاء وقائمة أمهات الكتب في الفقه الإسلامي، فلا نجد في الكتاب اهتماما يذكر بآراء الإمام احمد ابن حنبل وأتباعه في هذه القضية، وما قال به جمهور المالكية،  مع العلم أن الإمامين الكبيرين أحمد ابن حنبل ومالك ابن أنس رضي الله عنهما كانا في صراع مع السلاطين طيلة حياتهما، ولم يخرجا عليهم. وفتوى الإمام مالك رضي الله لأهل المدينة بمبايعة محمد بن عبد الله بن الحسن الذي خرج على أبي جعفر المنصور، عللها بأنهم كانوا مكرهين على بيعة المنصور، ولم يشارك الإمام مالك نفسه في الخروج ولزم بيته.

 

هذا فضلا عن تجاهله لأقوال علماء كبار مثل ابن تيمية رحمه الله الذي يقول في كتابه "منهاج السنة النبوية": "لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان خروجها من الفساد أعظم من الفساد الذي أزالته". ويشدد ابن تيمية على الرأي الذي يدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم والفاسق بأنه "رأي فاسد فإن مفسدته أعظم من مصلحته، وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة". وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله فلا تدافعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم الإستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " . صدق الله العظيم.

 

وحتى ولو قبلنا ببعض الآراء الضيقة جدا لبعض الفقهاء بإباحة الخروج على الحاكم الظالم في حالات معينة من قبيل رأي أبى حنيفة الذي استشهد به الكاتب ،  فإن أقوال العلماء يُحتجُّ لها، ولا يُحتجُّ بها، فيلزم لصحتها دليل واضح من الكتاب والسنة ، وهذا ما جعل جمهور العلماء لا يقول بمسألة الخروج إلا في حالة "الكفر البواح" امتثالا للأحاديث النبوية الصريحة.

- غرابة وغموض بعض الأفكار: يخرج الكاتب أحيانا ببعض النصوص الغريبة والأفكار الغامضة ، مثل قوله " إن مصطلح "ولي الأمر" مصطلح دخيل على الإسلام وفلسفته التشريعية في السياسة" . ثم يضيف " إن هذا المصطلح لم يرد في القرآن له ذكر ولم تشر إليه السنة أي إشارة".(ص 74). غير أن من يرجع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وما جاء في أمهات الكتب الشارحة والموضحة لهذا المفهوم لغة واصطلاحا ، لا يمكنه إلا أن يعتبر نص الكاتب هو الدخيل على الإسلام وليس العكس، لأن التبريرات المختزلة التي أشار إليها لا تحمل في طياتها قيمة يمكن الالتفات إليها ، فلو ساءت ممارسة بعض العباد لما فرضه الله عليهم فإن ذلك ليس حجة للطعن في مصداقية الفرض. والحادثة التي ذكرها وهي أن الخليفة العباسي "الرشيد قام بعقد ولاية العهد لإبنه الأمين وعمره خمس سنوات إرضاء لأمه زبيدة بنت جعفر المنصور، تتنزل في إطار انحراف العباد عن ضوابط الشرع المبينة في الكتاب والسنة، وليست مبررا على الإطلاق لاستبعاد ما نصت عليه الآية الكريمة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ". ومما يثير الغرابة حقا أن الكاتب يرى أن الآية لا علاقة لها بطاعة الحاكم لأن ورود كلمة "أولي الأمر وردت في الآية الكريمة بصيغة الجمع بدل "ذي الأمر" بصيغة المفرد.(ص 141)  وهذه حجة واهية لسببين: الأول أن: أولو: جمع لا مفرد له، بمعنى (ذوو) أي أصحاب، ولا يأتي إِلا مضافًا،(كما في القاموس المحيط ص 1244، باب اللام فصل الهمزة). وبالتالي فإن صيغة الاشتقاق المفرد التي ذكرها الكاتب ليست دقيقة. وحتى لو قبلنا بها تجوزا  فإن جماعة واحدة من المسلمين يمكن أن يتعاقب على قيادتهم عدد من الأمراء والولاة، ومن هنا تكون صيغة الجمع في الخطاب هي الأنسب.

 

أما السبب الثاني لضعف هذا الاعتراض فهي نصوص السنة الواضحة لم تترك مجالا للاجتهاد في هذه القضية، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: «اللهم من وليّ من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فشقق عليه، ومن وليّ من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به» رواه مسلم.

 

وفي المبحث الرابع الذي خصصه لنقد ما سماه "الفقه السلطاني"، يبالغ الكاتب في ممارسة سياسة الهروب من التأصيل إلى التسطيح والاختزال عبر فرض مصطلح مبهم وغامض على القارئ وهم مصطلح الفقه السلطاني- فقهاء السلطان، فقد كان حريا بالكاتب أن يشرع في تقديم تعريف دقيق ومحدد لهذا المصطلح قبل أن ينتقل إلى مرحلة نقده. وبسبب هذا النقص من يطلع على الكتاب ستتقافز إلى ذهنه أسئلة مشروعة حول طبيعة ومميزات الفقه السلطاني ، ومنهم فقهاء السلطان تحديدا ، وهل كل من ربطته علاقة بسلطان أو عمل معه أو قدّم له مشورة ، أو قال بعدم شرعية الخروج على الحاكم، يشمله هذا الوصف ؟ .  فلا نجد في ضوء تلك الأسئلة سوى أسطر قليلة يستعرض فيها الكاتب نبذة عن خمسة من كبار علماء الأمة ممن يعتبرهم رواد "الفقه السلطاني" وهم (القاضي ابو بكر الباقلاني، أبو الحسن الماوردي، أبو يعلى الفراء، الإمام ابو حامد الغزالي ، ابو بكر الطرطوشي ) (ص 51 -52). والمفارقة التي تستوقف القارئ هنا هي فداحة الاتهامات غير المسندة بالأدلة التي وجهها الكاتب لهذه الكوكبة من العلماء لمجرد أنهم كانوا على صلة ما بحكام زمانهم، حيث عزا رأيهم في وجوب طاعة الحاكم والتشدد في تحريم الخروج عليه إلى "أنهم عاشوا في كنف الحكام المستبدين ، ونالوا لديهم حظوة عظيمة، وقبلوا أن يتقلدوا وظائف كبرى في دولهم ، ولم يكونوا معارضين للنظام" (ص 50). واستمراء لأسلوب القفز إلى النتائج مع غياب الشواهد والأدلة، لم يكلف الباحث نفسه استعراض الأسس التي استند إليها هؤلاء الفقهاء في تحريم الخروج على الحاكم ووجوب طاعته ، مجبرا القارئ بشكل تعسفي على القبول بعريضة الاتهام التي وضعها سلفا.

 

- الطمس المتعمد لبعض الأحداث التاريخية لتصادمها مع طرح الكاتب: وهو ما نعثر عليه جليا في تجاهله "للثورة" التي قامت على الخليفة عثمان رضي الله وما نتج عنها من فتنة كبرى بين المسلمين ، ومع أن الكاتب نفسه تعرض للفترة الراشدية وآلية انتقال السلطة بين الخلفاء ، ومع ذلك لا يعرض لتفاصيل تلك الأحداث رغم أنها ذات أهمية كبيرة في وقتنا الراهن لأنها تندرج في سياقات التنظير لفكرة "الثورة" من منظور تاريخي شرعي، خصوصا إذا علمنا أن الكاتب أوضح أن أحوال المسلمين في أواخر عهد عثمان بلغت حالة من التردي تدعو للثورة، كالفساد، وعجز الحاكم عن تسيير أمور المسلمين، ومن ذلك "إدخال الأقارب في الولاية والمال ،، وبسبب ذلك دخلت أمور كثيرة أنكرت عليه ، فتولّد من رغبة الناس في الدنيا وضعف خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ، ما أوجب الفتنة"  (ص111). ولا نجد سببا يجعل الكاتب لا يستدل بتلك الأحداث سوى أن نتائجها لا تشفع لقوله بأن الفساد من أحد موجبات الخروج على الحاكم. كما أنها تناقض ما ذهب إليه من "أن التجربة البشرية من المبادئ التي تقوم عليها فلسفة التشريع في الإسلام" (ص 38). لأنه في نفس السياق يمكن اعتبار خروج بعض المسلمين على عثمان رضي الله أول تجربة في التاريخ الإسلامي تثبت خطورة الخروج على الحاكم المسلم وتؤكد صحة الأحاديث النبوية التي تنهى عن ذلك صراحة وحاول كاتبنا أن يخرجها من دائرة المحاججة.

 

أخيرا يمكننا القول أن الدكتور المفكر "محمد المهدي محمد البشير" رغم ما قدمه من انتقادات غير مقنعة  للضوابط المعروفة شرعا للخروج على الحاكم ، خصوصا الأحاديث النبوية الشريفة، فإنه ترك الأمر مرسلا والباب مفتوحا على كل الاحتمالات للمسار الذي يمكن أن تسلكه الأمة لتغيير حكامها ، أي بمعنى آخر لم يقدم وصفة بديلة "للثورة" التي نظّر لها شرعا وحاول أن يزيح من أمامها كل العوائق الدينية . فلا يكفي فقط أن نقول إن الثورة على الحاكم مباحة شرعا ونقف، إذ لا بد من الإجابة على تساؤلات من قبيل: كيف يخرج الناس على حكامهم؟ هل بوسائل القوة أم بوسائل السلم؟ وإذا كان بالقوة، ما هي حدود تلك القوة؟ ومن يحق له استخدامها؟ ثم ماذا لو تمادى الحاكم في ظلم أقلية في المجتمع، ألا يحق لها الخروج للدفاع عن نفسها إذا لم يرفع عنها الظلم؟. والأهم من كل ذلك : ماذا لو ترتب على خروج الأغلبية المشرعن عند الكاتب ، مآسي على الأمة تفوق الضرر الواقع عليها من الحاكم؟. كل تلك الأسئلة لم نجد لها إجابات وافية في ثنايا الكتاب، فبدا لنا أشبه ما يكون بملاحظات عامة استعان صاحبها بشوارد من هنا وهناك غاضا الطرف عن الجوهر الحقيقي للقضية، ونخلص من ذلك إلى القول  أن ما قدمه الكاتب في نظرنا هو محاولة امتلكت الجرأة، ولكنها افتقرت لمقومات الصمود والمنافسة، لأن محاكمة الفقه الإسلامي المتكئ على النص الشرعي عبر اجتهادات سطحية مختزلة لن يخدم المشروع الفكري الذي يبشر به السيد "محمد المهدي محمد البشير" وغيره من دعاة التجديد.

20. فبراير 2014 - 17:56

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا