موريتانيا تحتاج الى قلم رصاص / محمد فال ولد يحى

altفي نهاية الخمسينات، وخلال حرب الفضاء بين أمريكا والاتحاد السوفياتي سابقا، واجه المهندسون مشكلة تتمثل في كون أقلام الكتابة بالحبر لا تعمل في الفضاء، نظرا لانعدام الجاذبية، وقام الأمريكيون  بتشكيل فريق خاص لحل هذه المشكلة،

 وخلية متابعة، ولجنة إدارية لمراقبة الأشغال، ولجان لإدارة الأزمات ومتابعة العمل، وكانت النتيجة تطوير قلم لا يحتاج للجاذبية لكي يعمل، وهكذ سيكتب رواد الفضاء ملاحظاتهم، لكن فى المقابل بلغت تكلفة المشروع أكثر من مليون دولار (حوالى المليار دولار حاليا...). الجانب الروسي واجه نفس المشكلة، وخلال اجتماع تقيمي للمشكلة .."كاكداه " من هنا ..و "اسبسيف" من هناك ...و"اينت بربليما" ... وخذ معك قلم رصاص أيها الرائد الفضائي.

ما يحدث فى موريتانيا أحيانا هو أن المشكلة البسيطة يتم تعقيدها لدرجة أنها تصبح أكبر من حجمها، وتؤخذ لها حلول تضاهي تكاليفها تلك الحلول، (الديون الخارجية مثلا )، حدث ذلك كثيراً في المشاريع الاستثمارية على مدى العقود الماضية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يجرى الحديث الآن عن مشروع مد المياه من النهر إلى المناطق الشمالية بتكلفة تزيد على ملياري دولار.

في اعتقادى، فإن هذه التكلفة تكفي لبناء أكثر من ستة سدود كبيرة، تسد الحاجة المنوطة من وراء هذا الصرف الباذخ، مع استدامة المياه الجوفية والحفاظ عليها، واستغلال أمثل للمياه السطحية.

يمكن لموريتانيا، بـكل تاكيد، أن تكون "بلدا نــامـيا" أو "سائرا فى طريق النمو"، لأنها تتوفرعلى مقومات كبيرة جدا، لكن ما دمنا نبحث خارج دائرة تلك المقومات  فنحن نطور حلولا غير ناجعة بتكاليف أكبر من حجم الاشكالية التى أمامنا، تماما مثل الأمريكيين مع مشكل الحبر فى الفضاء.

نعم موريتانيا لديها مقومات كبيرة تحتاج إلى التفعيل، مثل السياحة الشاطئية، فلدينا شاطئ بحري يناهز 800 كلومتر، حيث تعانق الرمال الصحراوية أمواج المحيط الأطلسي، ومع ذلك لايوجد نشاط سياحي واحد على الأقل، لا يوجد فندق أو منتجع سياحي أو مدينة سياحية، ولا يوجد سوى مخيمات سياحية موسمية أحيانا، السياحة االتى أقصد لا تعنى ماهو موجود فى بعض البلاد الغربية من تفسخ وعري وأشياء أخرى تخالف القيم والأخلاق الاجتماعية والدينية،  وإنما السياحة تعني جملة نشاطات ترفيهية مثل الغوص، والتنزه على الرمال الشاطئية، وركوب الأمواج وغيرها، مما يمكن لنا ان نأصل له كنشاطات يمكن لها أن تساهم فى إنشاء منتجعات ومدن سياحية.

الخدمات الفندقية وغيرها مجرد خدمات مساندة، مثلا حينما يزور أحد المديرين التنفيذين موريتانيا من أجل توقيع اتفاقية ويقيم فى أحد فنادق العاصمة، فهو لم يمارس السياحة، لكن حين يحظى بجولة سياحية فى أحد المنتجعات أو يمارس رياضة الدراجات الرملية على الشاطئ أو أي نشاط سياحي آخر، فإنه في الغالب سيجلب عائلته في زيارته القادمة، وسيخبر أصدقاءه، وهكذا تتحول موريتانيا بالنسبة إليه من وجهة استثمارية إلى وجهة سياحية.

من مقومات موريتانيا التى تحتاج إلى التفعيل التنمية المستدامة، فمن المعروف أن موريتانيا تجمعات قروية متعددة، وهي فرصة سانحة لتفعيل التنمية المستدامة، فمثلا يمكن لإحدى القرى النائية أن تنتج ما يتناسب مع مقوماتها الزراعية والفلاحية والتنموية، بحيث تحافظ على بيئتها وتنتج ما يمكن أن يساهم فى الناتج المحلي والقومى، بدلاً من الواقع، حيث تعتمد القرى والتجمعات القروية فى جميع استهلاكها تقريبا على ما يصلها من العاصمة نواكشوط من مواد ومستلزمات تتضاعف أسعارها بسبب تكاليف النقل، وتقلّ جودتها نظراً لعدم مراعاة معايير الحفظ والرقابة.

إن إقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة مثل تجميع "توقة" و"النبق" و" التبلدي (تجمخت)" والصمغ وغيرها من المنتجات الوطنية، التى يمكن أن نجعل منها أشياء إيجابية،  ليس فى حياتنا الخاصة فقط، بل فى المحيط الإقليمى أيضا، وحتى في السوق العالمية، فشجرة الزيتون مثلا فى حوض المتوسط تحولت من الاستهلاك المحلي إلى العالمي، بسبب الزيت الذى تنتجه، وهو حال أشجار الصمغ العربى فى الجزيرة العربية وفى اليمن والسوادن!! فلماذا نهمل نحن كل هذه المقومات ( شجرة الصمغ ، شجرة "توقه"، حاليا ينتج منها زيت يضاهى زيت "آركان" فى الجودة والأبعاد الاستشفائية، شجرة السدر، وهي أيضا يمكن بالمحافظة عليها تحويل ثمارها إلى خيرات لا حصر لها...إلخ).

إن " تــنـظــيـم" السوق التجارية، (السوق التجاري، سوق الاتصال، واالأسواق النقدية مثلا)، إحدى أهم الركائز التى يمكن لموريتانيا التعويل عليها بحيث من المعرف أن حجم التدوال التجاري فى موريتانيا يقارب المليار دولار، هذا الرقم يضاف إليه  حجم التدوال فى سوق الاتصال التى أصبحت بعض مؤسساته تنافس المؤسسات النقدية فى البلد، حيث عمدت مؤخرا إحدى شركات الاتصال إلى توفير خدمة تحويل الأموال عن طريق الرصيد فى مختلف مناطق الدولة، وهي سابقة من نوعها ونازلة فقهية أعتقد أن أهل القانون يجدر بهم النظر فيها باعتبار أن الخدمات التى تقدمها شركات الاتصال يجب أن تنحصر فى معدات و وسائل الاتصال وحدها. 

الزراعة فى حوض النهر، قبل سنوات أشهَر الرئيس السينغال عبد لله واد خلال التحضير للرئاسيات شعاراستغلال الأحواض الناضبة وكان له دور إيجابى فى إعادة انتخابه، وما أكثر الأحواض "غير الناضبة"، وتلك الناضبة فى الجانب الموريتانى، وهي لا تحتاج إلا إلى استغلال.

يقال إن الأرض لمن أحياها، وكثيرة هى الأراضى غير المستخدمة، نظرا للملكية التقليدية التي تحتاج إلى تثبيتها وشرعنتها بالتوطين والاستثمار الزراعى، و تيسير القروض الزراعية  في هذا الشأن، بكل تاكيد سيساهم فى التنمية الزراعية.

بُحيرتا الركيز وألاك، والتجمعات والمسايل المائية (التيمْرنْ، الوديات، الأضيات) يمكن الاستفادة منها، هذا فضلا عن الزراعة فى حقول النخيل  المشهورة فى مناطق متعددة من موريتانيا، وهنا أتوقف قليلا عند النخيل، فمن المعروف أن موسم "الكيطنة" لا يتجاوز بضعة أشهر ، وبالتالى فإن استهلاك الإنتاج الوطني من التمور لا يتعدى تلك الأيام لتبقى موريتانيا بقية العام من دون تمور محلية، ذات جودة منافسة، لانعدام وسائل الصيانة والحفظ، على الرغم من توفرها (غرف التبريد)، فمن خلال معدات بسيطية يمكن أن نحفظ التمور، كما تفعل الدول المصدرة والمسوقة لهذه المادة الغذائية المهمة، بدلاً من أن تغزو أسواقنا هذه الدول، وتتربح من جيوب المواطنين، وتغدق هذه التمور على دولها سيولة من العمولات الصعبة تمثل قياسا في الناتج القومي لها.

الموقع الجغرافى  لموريتانيا – أيضا - يمنحها فرصة لأن تكون بوابة عالمية، يمكن منها الولوج إلى مجموعة كبيرة من الدول الأفريقية، وإعادة التصدير أحد أبرز مصادر التمويل  التى يمكن التركيز عليها، نظرا لمهارة الموريتانيين في التجارة، ووجود منطقة حرة يمكن تفعليها من خلال إعادة التصدير، وقد أهملت موريتانيا، حتى الآن، استفادتها العظمى من موقعها/ الجسر الاستراتيجي.

موريتانيا دولة غنية بثروتها البحرية، حيث تعتبر سواحل موريتانيا من أغنى السواحل العالمية بالأسماك، أما الثروة المعدنية فيكفى أن من ضمنها الذهب ، فهو من مظاهر الغنى لدى جميع شعوب العالم، ثم بعد ذلك النحاس والحديد، يتم انتاج الذهب فى موقعين، وليس في موقع واحد!! وأحد الموقعين مختص بانتاجه!!.

الآفاق البترولية والغازية، أيضا، تشير إلى مخزونات واعدة، إضافة إلى ما يتم استغلاله الآن، لكن هل الأفضل المحافظة على كل هذه الثروات؟ أم ترخيص استغلالها لشركات عالمية باتفاقيات، ينزل الحبر منها بجاذبية دفع الضريبة على الدخل أوعلى الأجور وسداد بعض العمولات السخية، وبعض حاجات الدولة الآنية الى السيولة النقدية؟.

البيئة الصحراوية والرمال الناعمة مصدر كبير للسلكون، ومن أبسط مخرجات هذه المادة إنتاج الزجاج، وكذلك تكنولوجيا العزل والقواطع المقاومة للحريق، وتبادل الخبرات والمعلومات بهذا الخصوص سيعزز الاستثمار فى هذا المجال الحيوي، إضافة إلى تكنولوجيا المعلومات وإنتاج أشباه المواصلات و المعالجات الرقمية.

الرياح إحدى أكبر مصادر الطاقة الآن فى العالم، وقد حبانا الله بها، ويمكننا من خلالها إنتاج الطاقة المتجددة، التى يعد الاستثمار فيها ذا مردودية على الأمد الطويل، بدل الطاقة الأحفورية الآيلة إلى الزوال.

كما حبانا الله بكمّ هائل من الأشعة الشمسية التى يمكننا استغلالها من خلال بعض التطبيقات التى يمكن أن تطور محليا بناء على الطلب، وهنا يأتى دور المثقف "غير السياسي" من أجل التجاوب مع متطلبات الحاجة الوطنية فى هذا المجال، وتطوير وإبداع حلول يمكن لها أن تكون نواة إنتاج صناعي محلي فى هذا البلد.

ملاحظات ختامية

اولا: منذ ما يقارب عشر سنوات وثلاث شركات عالمية "تشرف" على استخراج الذهب والنحاس والبترول، فهل أصبحت موريتانيا قادرة على استخراج هذه المعادن الثمينة من مناجم أخرى؟ ما الفائدة الاقتصادية، والخبرة الفنية التين اكتسبتهما موريتانيا بعد أكثر من عشر سنوات من استخراج ثرواتها الباطنية؟ هل كم يكفينا من الزمن لنصبح قادرين على استخراجها؟ مجرد الاستخراج !!.

ثانيا: منذ أكثر من نصف قرن والشركة الوطنية للصناعة والمناجم "اسنيم" تستخرج خامات الحديد وتبيعها فى السوق العالمية، وفي العام الماضى احتفلت باستخراج 13 مليون طن، فهل عجزت خلال كل هذه المدة عن اكتساب خبرة إضافية؟ استخراج ..استخراج فقط! لماذا لا تكون هناك معالجة؟ على اعتبار أن الخامات المستخرجة غنية جدا بنسبة الحديد (تصل الى 65%)،  وعلى اعتبار أن "فرن القوس الكهربائي" يتيح لاسنيم مثلا القفز من 3.4 مليار صدارات إلى أكثر من 7 مليار دولار سنويا وهو حسب علمى استثمار قد لا يزيد عن مليار دولار، ويتضح بما لا يضع مجالا للشك أن العائد الاستثماري (RRI) هنا كبير جدا، إضافة إلى أنه سيقفزر باليد العاملة الى مستويات عالمية، ناهيك عن الخبرة والتطوير التى من المكن أن يتيحها استجلاب تكنولوجيا بهذا الحجم، أما تقنيات "فرن الصهر" haut fourneau فهى تنقية تستخدم فى الصين منذ القرون الوسطى وأعتقد أن خبراء اسنيم لهم القدرة التامة على العمل عليها، وإنما تنقصهم مصارد للطاقة التى  لم تعد إشكالية مع وجود الكثير من تطبيقات إنتاج الطاقة المتجددة وغيرها.

ثالثا: فى بداية الثمانينات تم ادخال "العقول الإلكترونية" إلى وزارة المالية من أجل تسهيل العمليات المالية، وفى نهاية الثمانيات كانت الحواسيب موجودة بكثرة فى جامعة نواكشوط، ويدرس عليها طلاب السنوات النهائية فى اول دفعة من الرياضيات المطبقة على التسير(MIAGE)، وهكذا انتشرت الحواسيب بشكل أفقى فى الإدراة والمصالح التقنية فى جميع المؤسسات، وأصبح اليوم كل مكتب توجد عليه عدة حواسيب منها المحمول والثابت، لكن بعد كل هذه الثورة لا يوجد فى موريتانيا اليوم "حاسوب عملاق"، أو قاعدة بيانات موحدة؟ وبالرغم من وجود التطبيقات المكتبية بكثرة لاتزال الكثير من المصالح الإدارية وحتى المالية تتعامل بوثائق مكتوبة "بالحبر السائل" بفعل الجاذبية الأرضية، كما لا يوجد أي اهتمام يذكر "بالمصادر المفتوحة " (open sources) التى كانت السبب الأول فى نجاح كبريات الشركات العالمية مثل آبل وغوغل وغيرها ممن كان لها السبق فى استخدام "البرمجيات مفتوحة المصدر". أما نحن ففي كل عشر سنوات تقريبا نقوم بإحصاء إدراي، تصرف مليارات الأوقية فى التعاقد مع شركات غير وطنية  تعالج المعطيات فى حواسيبها "خارج الدولة "، وتتعامل مع وثائقنا الشخصية فى قواعد بيانات وحواسيب عملاقة غير موجودة فى البلاد (السيادة الوطنية هنا على المحك)، بمعنى آخر، كان الانتشار الأفقى يعنى " تجارة الحاسوب "، ولم يكن الانتشار عموديا - عمقيا (الاعماق).

 

24. فبراير 2014 - 14:35

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا