حين يمزق القرآن في ولاية أمريكية تقوم قيامة المسلمين وحق لهم في ذلك فما بالك بالأمر حين يحرق في بلد يعد حفاظه من أكثر حفاظ البلاد الإسلامية وكل مكوناته تدين بالإسلام؟
حقيقة تمزيق القرآن كانت قبل أشهر أغرب صورة يمكن تخيلها من أوسع الناس خيالا، غير أن المتتبع
لتلاحق الأحداث وما تعج به صفحات التواصل الاجتماعي لن يستغرب مثل هذه الخطوة ولو أن ثمة خطوة أعظم منها لم يستغرب أن تليها، فالواقع أن ثمة تنظيم إلحادي قد يكون محدود الأفراد والتنظيمات لكنه واسع النشاط يسير بقدر من الجراءة والتدرج وربما التلون والتقية، بغية تحقيق أهداف يبدو أهمها فك النسيج الاجتماعي وإعادة بناء القيم الاجتماعي على أساس التطرف العلماني المقيت.
إن أخشى ما أخشاه أن يكون لهذه الحثالة ظهير من جهات في النظام، لا أصدق من يتهم رأس النظام مباشرة في تدبير مثل هذه العمليات لأنه من النادر أن يصل مسلم على مستوى من التدين الشخصي إلى حوك مثل هذه العمليات من أجل الحفاظ على كرسي، لا يصعب الحفاظ عليه في مجتمع كمجتمعنا، غير أن عدم ظهور أي بوادر تشي بجدية النظام في التعامل مع هذه الظاهرة يجعله مسؤولا مسؤولية تسحب منه آخر ورقة من أوراق الشرعية لأن حماية مقدسات المجتمعات الإسلامية أولى الأولويات وهل حاورت مسلما على الفطرة لم تجتحه شياطين العلمانيين إلا قال فليذهب الأمن والصحة والتعليم وكل متع الدنيا إذا أزهقت البقية الباقية من الدين؟
إن ظهور النظام بهذا المستوى من العجز يدعم القائلين بتورط جهات مؤثرة فيه وعلى الجميع وفي مقدمتهم أصحاب القرار أن يتصيد تلك الأفاعي الخفية بالبينة والبرهان لا بالشك أحرى البهتان لأن اعتبار الأحداث هامشية فيه الكثير من الطيبوبة الزائدة ولأن ساعة الانهيار أضحت وشيكة.
ثم إن القمع الشديد الذي جوبهت به المظاهرات المنددة بالفعلة التي لا وصف لها في اللغة كان سيئا بكل المقاييس وهو مما يزيد مسؤولية النظام ولا يزيد الطين إلا بلة.
صحيح أن تتبع مثل هذه الأفاعي ذات العلاقات القوية مع الغرب يعرض النظام لكثير من الضغوط لكن الضغوط الخارجية ستكون أخف وأرحم من الانفجار الداخلي الذي يتيح من التدخل الخارجي والضغط أضعاف ما يحدث تحت ظرفية أدنى مستويات الاستقرار.
إن الذين قصدوا تمزيق القرآن مزقوا قلوب المسلين وأكبادهم في أنحاء المعمورة كلها، أسالوا دموعا ودماء ومنعوا السهاد لكنهم لم يمزقوا القرآن.
إنهم لم يمزقوا القرآن لأنه كلام الله الذي لا يغسله الماء ولا تفنى عجائبه ولا يطفأ نوره فيه تبيان كل شيء وحكمه وهو حبل الله المتين وهو الصراط المستقيم وهو القول الفصل ليس بالهزل، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر، وهو الذكر الحكيم لا تزيع به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد، وهو البلاغ والبشارة والنذارة والشفاء والنور والهدى والسراج المنير خضع إجلالا له عتاة الكفار مثل الوليد بن المغيرة: "والله إن له لحلاوة ، وإنَّ عليه لطَلاوة ، وإنَّ أسفله لمغدق ، وإنَّ أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر" . كما أشاد به بعض المستشرقين كالدكتور شومبس الألماني: "يقول بعض الناس ان القرآن كلام محمد - وهو خطأ محض - فالقرآن كلام الله تعالى الموحى على لسان رسوله محمد، فليس في استطاعة محمد ذلك الرجل الامي في تلك العصور الغابرة أن يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء ويهدى الناس من الظلمات إلى النور، وربما تعجبون من اعتراف رجل أوربى بهذه الحقيقة، إنى درست القرآن فوجدت فيه تلك المعاني العالية والنظامات المحكمة وتلك البلاغة التى لم أجد مثلها قط في حياتي، جملة واحدة منه تغنى عن مؤلفات هذا ولا شك أكبر معجزة أتى بها محمد عن ربه "
لم يمزقوا القرآن لأن البقاء للأصلح {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} و{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} وكما يقول الشهيد سيد قطب: "هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان "
لم يمزقوا القرآن لأنه كتاب التحدي الأبدي والإعجاز السرمدي في:
نظامه الصوتي البَدِيع بجرْس حروفه حين تسمع في روعة فواصله ومقاطعه وتناغمه وتجانسه في جزالته ولينه يقول الرافعي: القرآن ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وضرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب، وان أوعدت جعلت الالسنة ترعد من حمى القلوب، ومعان بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الايمان وجه الأمان وبينا هي ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى العبير، وتهب عليها بأنفاس الرحمة فتنم بسر هذا العالم الصغير، ثم بينا هى تتساقط من الأفواه تسافط الدموع من الأجفان، وتدع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان، وتمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان إذا هي بعد ذلك اطباق السحاب وقد انهارت قواعده، والتمعت ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذا هي السماء وقد أخذت على الارض ذنبها واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها الرادفة، وانما هي عند ذلك زجرة واحدة، فإذا الخلق طعام الفناء"
في إشاراته العلمية التي تتكشف بالتقدم العلمي { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد }
في إعجاز تشريعه الذي ما زال يحير فقهاء القانوني بعد 15 قرنا. { أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟ }
لم يمزقوا القرآن لأنه أنشأ حضارة تشعبت علومها وامتدت أرجاؤها وكانت أكثر حضارات الأمم تسامحا وانفتاحا معارفها منه انبثقت وإليه تعود فكما في كتاب الإتقان في علوم القرآن: "اعتنى قوم بضبط لغات القرآن وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه ...فسمو القراء.
- واعتني النحاة بالمعرب منه والمبنى من الاسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الاسماء وتوابعها وضروب الافعال واللازم والمعتدى ... وبعضهم اعربه كلمة كلمة
- واعتني المفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ولفظا يدل على معنيين ولفظا يدل على اكثر فأجروا الاول على حكمه وأوضحوا معنى الخفى منه وخاضوا في ترجيح احد المحتملات ذى المعنيين أو المعاني وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره.
- واعتني الاصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الاصلية والنظرية فاستنبطوا منه وسموا هذا العلم بأصول الدين.
- وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما يقتضى العموم ومنها ما يقتضى الخصوص إلى غير ذلك فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز - وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهى والنسخ، إلى غير ذلك من الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء وسموا هذا الفن أصول الفقه.
- وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الاحكام فأسسوا أصوله وفرعوا فروعه وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا وسموه بعلم الفروع وبالفقه ايضا
- وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة والأمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الاشياء وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.
... ونظر قوم الي ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت.
- ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والاطناب والايجاز وغير ذلك فاستنبط وا منه المعاني والبيان والبديع - فانتهى جميع العلم في القرآن.
ويقول جوستاف لوبون الفرنسي: "ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب" وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين، والسهولة العجيبة التي ينتشر بها القرآن في العالم شاملة للنظر تماماً فالمسلم أينما مر ترك خلفه دينه وبلغ عدد أشياع النبي ملايين كثيرة في البلاد التي دخلها العرب بقصد التجارة "لا فاتحين" كبعض أجزاء الصين وأفريقيا الوسطى وروسية وتم اعتناق هذه الملايين للإسلام طوعاً، لا كرهاً ولم يسمع أن الضرورة قضت بإرسال جيوش مع هؤلاء التجار العرب المسلمين لمساعدتهم ويتسع نطاق الإسلام بعد أن يقيمه هؤلاء في أي مكان كان"
ويقول: "إن المسلمين العرب وحدهم كانوا أساتذة الأمم المسيحية عدة قرون ونحن الغربيين لم يتح لنا الإطلاع على التراث اليوناني والروماني في جامعاتنا عما نقل إلى لغاتنا من كتب العرب إلا في أزمان متأخرة".
لم يمزقوا القرآن لأنه ليس في المصاحف فحسب بل هو كتاب أمة أناجيلها في صدورها وهل يتلى كتاب في الكون كما يتلى القرآن من الفجر إلى السحر آناء الليل وأطراف النهار؟ به نتغنى ونستغني وبه نشفي ونستشفي تغمرنا به سعادة ضلتها الأمم وزايلنا به الشقاء والألم فلو كشف الغطاء لأبصرنا السكينة خلال الديار وهو مصدر ما كان لنا من القوة والانتصار. يقول أحمد محرم قوله:
لنا في كتاب الله مجد مـــــــــــــؤثلٌ ** وملكٌ على الحـــــدثان والدهر دائم
إذا نحن شئنا زلزل الأرض بأســـنا ** ودانت لنا أقطارها والعــــــــواصم
نصول فنجتاح الشعوب وننثنـــــــي ** بأيماننا أسلابهـــــــا والغنــــــــــائم
قضينا المدى صرعى تخور نفوسنا ** وتخذلنا في النــــــــاهضين العزائم
فلم يك إلا أن أحيــــــــــــــط بملكنا ** ولم يك إلا أن دهتنا العظـــــــــــائم
تداعت شعوب الأرض تسعى لشأنهـا ** وغودر شعب في الكنـــــــــانة نائم
عفا الله عن قومٍ تمادت ظنونهـــــم ** فلا النهج مأمونٌ ولا الرأي حـــازم
ألا إن بالإسلام داءً مخـــــــــــامراً ** وإن كتاب الله للـــداء حاســــــــــــم
ويقول الشيخ محمد الأمين بن مزيد:
كنت في ظلمةِ الدياجي أناجي ** مشرقَ النفس باليقين المكينِ
أنتشي إن قرأتُ في الليــــــــل** قرآنـــــي ورتَّلْتُهُ بشدْوٍ حزين
فرحتي دمعةٌ تُبَلِّل خـــــــــــدِّي** عندمـــــا يختفي رقيبُ العيون
يهمس الليلُ في فؤاديَ بالأسـْـرار**ِ حيثُ الوجودُ غافي الجفون
لم يمزقوا القرآن فقد مزقه أخ لهم من قبل وهو أمير حينئذ لا عميل أجير فقد فتح المصحف يوما فخرج له قوله تعالى: واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيد فألقاه ونصبه غرضاً ورماه بالسهام وقال:
تهددني بجبـــارٍ عنيـــــــــد ** فها أنا ذاك جبـــارٌ عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ ** فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى قتل وقطع رأسه ونصب على رمحٍ وطيف به دمشق وكذلك يستحق هؤلاء إن عرفوا وحتى لم يعرفوا فلا يساورنا شك في أن اللعنات ستحل بهم ويبوؤون بضنك الدنيا وجحيم الآخرة، أما القرآن فسيقى بعدهم بقاءه بعد الوليد بن يزيد.
الأستاذ محمدن بن الرباني