جريمة تيارت المنكرة....في سياقها / عبد الرحمن ولد أمبيريك الدَّحَّ

altاعترف،بدءا،بأنَّ الوقت مبكر على تناول جريمة ''تيارت'' المنكرة،و ما أججته من احتجاجاتٍ و غضبٍ مشروع بل واجب كل الوجوب على شعبٍ يُضرب في أقدس مقدساته،منذ فترة، على نحوٍ متلاحق و منهجي على ما يبدو،انتهى إلى تمزيق المصحف الكريم الذي هو أقدسُ المقدسات.

في الواقع،ليست جريمة تيارت فعلا معزولا،كما يُقال في أدبيات محاربة الإرهاب و التطرف الرائجة في منطقتنا.ففي العامين الأخيرين شهدت موريتانيا جرائم متلاحقة في حق الدين الإسلامي،وإنْ اتخذت ذرائع مختلفة منها محاربة ''روح الاسترقاق'' في الموروث الفقهي المالكي،و ذالك تعليلُ إيرا و زعيمها،بيرام الداه أعبيدي،لمحرقة أمهات كتب المالكية.

لبس التطاول على الدين الإسلامي كذالك لبوس النضال الحقوقي المجتمعي،و في ذالك يتنزلُ مقال الشاب النزقْ ولد أمخيطيرْ،الذي توهَّمَ أنهُ يُدافع عن مظالم شريحة ''لعلمين''.

و قبل أيامٍ قلائل،فقط،اعتدى الشاب ولد محمد لوليد على الشيخ محمد الحسن ولد الددو، في احد مساجد توجنين،و هي جريمة غيرُ مسبوقةْ في مكانها (المسجد) و في المعتدَى عليهْ الذي هو أحد علماء البلد البارزين.

ما يهمني في هذه المعالجة،المبدئية،هو رصدُ موقف السلطات،و النظام السياسي القائم من خلفها،في التعاطي مع هذه النوازلْ و ما يُرتبهُ ذالك من إمكانياتٍ لاستكناهِ موقف النظام من الحقل الديني،و محاولاته للسيطرة عليه و توجيهه.

إثرَ محرقة الكتب،أستقبلَ الرئيس،محمد ولد عبد العزيز،مظاهرات منددة بالجريمة في بوابة القصر الرئاسي،و أطلقَ وعيدَهُ بمعاقبة المذنبين.أُلقي ببيرام،و مقربون منه،في السجن و إنْ استُثني بعضُ من حضروا المحرقة،بل إنَّ الثقة من إيرا حدثني بأنَّ شخصا معروفا بقربه من الدوائر الأمنية هو من ''دلَّ'' بيرام على فكرة المحرقة،و حضرها و لم يُوقف إلاَّ لفترةٍ وجيزة.

كان حضورُ وسائل إعلامٍ رسمية و أخرى قريبة من النظام القائم مريبا و باعثا على الشك في أنَّ دوائرَ رسمية بعينها كانت على علمٍ بما سيَجري،و غضَّت الطرف عنهُ لــ''حاجةٍ في نفس يعقوب''.

 

سيَمضي بيرام اشهرا في السجن،ليَخرجَ و ليُفاجأَ الرأي العام الوطني باستقبال ولد عبد العزيز له في القصر الرئاسي  !!!

اليوم أو غدا ربما يَخرج علينا ولد عبد العزيز ليقولَ إنهُ سيُعاقب مجرمي دار النعيم، لكن شرطَ أنْ يكون في عقابهم منفعة سياسة،على شاكلة تلك التي كان يَبغيها من توريط برام،و ربما دعاهم لاحقا إلى القصر الرئاسي!!!!

كانت نازلة ''ولد أمخيطير'' أشدَ وقعا من محرقة بيرام.فقد تطاول الشاب المتنطع على مقام النبوة،و مع ذالك لم يَخرج الرئيس على الناس يُبشرهم بمعاقبة المذنبْ،بل إنَّ وسائل الإعلام العمومية (و لا يختلفُ منصفان على أنها أدوات دعاية للنظام) تعاملت بتبسيطية مشبوهة مع الموضوع و قدمتهُ على نحوٍ عائم،و ذالك أمرٌ مفهوم لأنَّ ولد أمخيطير ليس خصما سياسيا للنظام،و لا فائدةَ سياسية تُرجى من وراءِ الخوض في أمرهْ.

لم تُكلف السلطات نفسها عناءَ البحث في خلفياتِ فعلة الشاب الذي يُفترض أنهُ نشأ في وسطٍ متدينْ أو على الأقل ليس معاديا لرسول الله !!!مع العلم أنَّ مصادرَ متواترة تحدثتْ عن مواظبة الشاب على حضورِ مطارحاتٍ فكرية مراهِقة و عقيمةْ يعقدها بعض أقرانه في مقاهي بالعاصمة.

أما قضية الشيخ الددو،فحاولت دوائر النظام اختزالها في اعتداءٍ شخصي يُصنف إعلاميا في خانة ''الحوادث  faits divers''.بل إنَّ منابر الكترونية معروفة بتبعيتها لأجهزة الاستخبارات و لبعض أباطرةِ الجريمة الاقتصادية داخل النظام شنَّت حملة مجنونة على الشيخ الددو،و حاولت تفسير الاعتداءْ بما يَطعنُ في ورعِ الشيخ و استقامتهْ!!!!!

و قبل أيامٍ فقط،جابت مظاهراتٌ-سارَ في بعضها منحرفون-شوارع عددٍ من أحياء نواكشوط رافعين شعار نصرة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم،فاعتدوا على مدراسَ و سلبوا أغراض التلاميذ.و من نوادرِ هذه النازلة ''المضحكة المبكية'' ما حكاهُ لي الثقة أنَّ طفلا عاد إلى منزل أهلهْ و قد أصيب بحجرٍ في جبهته فسألتهُ أمهْ:من فعل بك هذا؟فأجاب ببراءةْ: أصحاب الرسول.فردَّتْ الأمْ:ما كان هذا دأبهمْ.

لم يعقبْ الموضوع أيَّ تعليقٍ و لا متابعة من الحكومة،و هي التي تتابع اليوم مظاهرات نواكشوط عن كثب،كما لم تتصدَ الشرطة لتلك المظاهرات الإجرامية بحزم،و هي التي تصدت بعنفٍ شديد لمظاهرات اليوم،بل إنَّ شابا قضى في هذه المظاهرات.

 

 

يتضح بجلاءْ،من رصد هذه النوازل،أنَّ موقف النظام كان مسكونا بالاعتبارات السياسية أكثرَ من اكتراثه لصيانة المقدسات،و مراعاة مشاعر الموريتانيين.و قد ذكَّرني كلام ولد عبد العزيز للمتظاهرين عقبَ محرقة الكتب بتباكي حسني مبارك على كرامة المصريين و شرفهم أيامَ ملحمة تصفيات المونديال بين مصر و الجزائر،و هو الذي ألقت سياساتُ نظامه الفاسد بأكثر من 3 ملايين مصري إلى ''فوق السطوح'' في القاهرة وحدها.

لقد حاول ولد عبد العزيز باستمرار تسويقَ صورةِ المنافح عن الإسلام الوسطي المعتدل،و لذالك دوافعه الجلية المرتبطة بالحرب على الإرهاب،و ما تُمليه الرؤية الغربية في هذا الصدد،لكن الاعتبار المحلي ''السياسوي'' كان ربما الأكثرَ مركزية في تحديد توجهات الرجلْ،الذي يُدرك –بحكم قربه من الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع-جوهرية السيطرة على الحقل الديني و توجيهه.

مطلع هذا الأسبوع،دشَّن ولد عبد العزيز قناةَ ''المحظرة''.و رغم أهمية إطلاقِ قناةٍ من هذا النوع،و قبلها إذاعة القرءان الكريم،فإنَّه من الصعب إدراجها خارج إستراتيجية السيطرة على الحقل الديني.و يتضح ذالك المسعى أكثرْ إذا ما أخذنا في الحسبان ماضي المدير العام لإذاعة موريتانيا!!!

تحتاج الأنظمة الاستبدادية-و السائرة في طريق الاستبداد-إلى الدين،ليسَ حبا فيه و إنما كآلية للسيطرةْ،وفق َعبارة مكيافيلي مع بعض التصرف.و هنا مكمن الخطر.

و يجدرُ هنا التذكير بأنَّ الديكتاتوريات العربية سوَّقت،خلال هبات الشعوب العربية في العامين الماضيين،نفسها كراعيةٍ للإسلام المعتدل و لحقوق الأقليات،فقسَّمت الثوارْ إلى صنفين:      

-إسلاميين متطرفين و تكفيريين.

-ليبراليين و يساريين استئصاليين متحللين من كل خلفية دينية و ثقافية.

اليوم وقد صارَ المصحف الشريف في مرمى السفهاء و السفلة و حواشي الناس،سيكون على النظام القائم أنْ يختارَ بين  التدليس و محاولاتِ التحكم،و بين الاصطفاف،بحق،إلى جانب الشعب الموريتاني و دينهِ الحنيفْ،دونَ تطفيف.

عبد الرحمن ولد أمبيريك (الدَّحَّ)

صحفي موريتاني مقيم بالمغرب

[email protected]

3. مارس 2014 - 17:23

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا