تابعت كافة ردود الفعل على حادثة تدنيس المصاحف ، خرج الوزير ، تظاهر الغاضبون ، تحركت قوات الأمن ، كتب الكتاب ، تحدث الخطباء ، تكلم المتكلمون ، توفي المصدومون ، استشهد المحتجون ، وأغلقت الدوائر العمومية والخصوصية مكاتبها وبدأنا نعيش حالة انفلات أمني غير معلن ووضعية ترقب غير مسبوق.
أعتقد أن المشهد يبعث إلى مناقشة بعض الأمور التي تضافرت لتشكل هذه الصورة الأليمة وهذا المشهد المروع في بلاد كانت وإلى عهد قريب أرض القرءان أرض الإسلام وبلاد الصالحين .
أعتقد أننا بحاجة إلى استنطاق المستقبل والاستئناس بكل التوقعات فمعركتنا من أجل تحديد هويتنا الدينية بدأت قبل بضع سنوات دون أن نشعر.
قبل بضع سنوات قررنا قطع علاقاتنا مع الكيان الصهيوني، وقبل بضع سنوات طهرت البلاد من آثار اليهود، وقبل بضع سنوات تحقق حلم الملايين ومطلب الجماهير واستقبل الرئيس استقبال الأبطال وسار بين الألوف من المطار إلى القصر.
لقد كان قرارا صعبا عجز كل الذين تعاقبوا على الحكم أن يلبوا طلب تلك الجماهير التي رفضت إقامة أي علاقة مع كيان صهيوني غاصب لأرض مسلمة عربية.
كان علينا وقتها أن نحدد ثمن ذلك القرار أن نحسب الحساب ونتساءل عن ما حصدته سفارة اليهود طوال فترة الإقامة وعن ما استخلصت من عبر وما اكتشفت من ثغرات ومواطن ضعف قد تشق بها لحمة الشعب وكيان الأمة وتهز بها أركان نظام طرد اليهود في وضح النهار.
كان علينا أن نبحث في تاريخ التبشير وأساليبه واستراتيجيات أهله ونستلهم من قراءتنا أوجه الشبه بين أساليب التبشير وأعمال بعض المنظمات العالمية التي ترتدي عباءة العمل الإنساني والناشطة في موريتانيا .
ما يزيد الأمر فظاعة هو أننا وللأسف الشديد لم نكن يوما أصدقاء لأنفسنا عندما نعارض بعضنا.
لا أستثني من هذه القاعدة المتأصلة في ثقافتنا الديمقراطية أي منخرط في العمل السياسي الموريتاني معارضا ولا مواليا، ويشكل انعدام طبقة غير مهتمة بالسياسة عاملا معززا لهذه القاعدة.
المعارضة تنظر إلى حسنات النظام وكأنها مسرحيات وترهات وذر للرماد في العيون حتى ولو تعلق الأمر بمطلب أجمعت عليه الأمة "قطع العلاقات مع إسرائيل" أو برامج تدخل لصالح الفقراء أو تشييد طرق أو تخطيط أحياء ، والمولاة تعتبر كل أنشطة المعارضة وخطاباتها تصب في هدف واحد هو تأجيج الوضع وتقزيم الأمور حتى ولو تعلق الأمر بطلب المعارضة تنظيم انتخابات نزيهة متفق عليها وفق شروط محددة.
هذه المشادة وهذه الرغبة في الحكم على حساب أمة تطاوى لتجد نفسها بين مصاف الدول في العالم جعلت بعض الخطابات مستغلة من طرف بعض العناصر المستنفرة سلفا من قبل عناصر خارجية تتحين الفرصة لتلعب على وتيرة التنافر وندخل في ما لا نريده جميعا وتضحك القوى الخارجية متمتعة بمشهد خططت له وحققته أيادي الموريتانيين.
كيف يكتب كتاب أن السبيل الوحيد للإطاحة بالنظام هو النزول إلا الشارع والتضحيات الجسام ، كيف يقارن هؤلاء المشهد الموريتاني بحركة استعمارية ظالمة تمسخ الوطن وتنهب خياراته وتعيد صياغة البنية المجتمعية وفق أمزجتها ، كيف يستحضر هؤلاء تضحيات جسام وعمليات فدائية ك "مقتل كبلاني" وما هو وجه المقارنة؟ هل غاب عن هؤلاء أنهم يخاطبون أمة في القرن الواحد والعشرين ، وهل غاب عن هؤلاء أن من بين من يقرؤون لهم متطرفون وناقمون ومخربون وعملاء .
كيف توصي المعارضة بالنزول إلى الشارع لحل المشكل السياسي الذي تراه قائما .
تزامنت توصيات المنتدى مع تدنيس الكتب، لأن العملاء والمندسين يتحينون الفرص واعتقدوا أن الوقت مناسبا لتقوية الفتيل وللذهاب بالوطن في مهب الريح.
كان على المؤتمرين أن يدركوا أنهم يخاطبون طيفا معقدا وأن من بين من يتابع المؤتمر من بعيد من لا يرجون الخير للبلاد.
لم نتكلم في يوم من الأيام عن الهوية الدينية لموريتانيا، لم يكن ذلك مدار نقاش رغم أنه وقبل عقود من الزمن كانت هنالك سجالات قوية حول هويتنا القومية وهويتنا الثقافية وحتى أن البعض تحدث في بعض الأحيان عن المواطنة والهوية ، وبقي البعد الديني محسوما لكننا اليوم حقيقة أما تحدي الهوية الدينية.
واضح أن الأمور تسير بوتيرة منتظمة بدأت تأخذ طابعا متسارعا فمن خليل وأصحابه إلى الرسول ومن الرسول إلى الله تبارك وتعالى ومن الطعن في كتب الفقه إلى الطعن في سيرة الرسول الأعظم ومن الطعن في سيرته صلى الله عليه وسلم إلى تمزيق كتاب الله تعالى .
هل يعقل عاقل أن تلاحق هذه الأحداث وعلى هذا النسق التسلسلي وليد صدفة، وهل يمكن له أن يكون عملا فرديا معزولا .
انظروا كيف فارقت تلك السيدة الحياة عندما علمت بأن جماعة دنست مصاحف في أحد أحياء العاصمة أبلغني أحدهم أن هول الخبر أثار القلب والخاطر وسلمت الروح لبارئها.
فلأنها عاشت في زمن كان فيه المصحف يعلق في أعلى السطوح ولأنها عاشت في زمن لا يمس فيه الطفل المصحف إلا إذا حفظ منه أجزاء حينها يحل له ذلك وفق ثقافتنا وتربيتنا ولأنها عاشت في زمن نكبر جميعا إذا سقط المصحف على الأرض ولأنها عاشت في زمن كان الحليف في المصحف آخر عتبة في سلم التحقيق والحالف في المصحف صادق مهما كانت مجريات الواقع تكذبه.
نحن بحاجة إلى بعث هذه الثقافة القرءانية نحن بحاجة إلى استحضار هذا البعد الذي تشكل قناة المحظرة إحدى ركائزه الأساسية وإحدى المنابر التي به نعبر عباب البحر نرتوي من معين القرءان وبركة القرءان .
لاحظوا معي أيضا كيف تزامن تدنيس الكتب مع تدشين هذه القناة وانطلاقة بثها وهل يمكن أن يتم كل هذا وفق مبدأ الصدفة يقول أحد المفكرين أن القردة لو أمضت ألف سنة على آلة "الدكتيلوكراف" فلن تكتب جملة واحدة من باب الصدفة .
على النخب الوطنية من كل التوجهات أن تعمل على توجيه حالة الامتعاض التي يشهدها الشارع الموريتاني حتى يتحول المشهد إلى إبداء واقع الغضب الذي نعيشه جميعا بطرق حضرية بعيدا عن الإنزلاقات الخطيرة التي طبعت حالة الغضب والتي استغلتها بعض العناصر الدخيلة بإيعازات من جهات تخطط للنيل من هذه الأمة.
وعلى النظام أن يتناغم مع مطالب الشعب المشروعة وأن نواصل في الجرأة في اتخاذ بعض القرارات ودائما بأساليب مدروسة حتى نحدث قطيعة حية وحقيقية مع اليهود المتربصين.
وغير بعيد عن تداعيات تدنيس المصحف الشريف تجد الصحافة المستقلة نفسها أمام امتحان كبير ، أمام إسهامات الإعلام في استتباب الأمن ، أمام امتحان المصداقية ، الوفيات وصلوا إلى ثلاثة والحرس الرئاسي نزل إلى الشارع من قال بهذا غير الإعلام من أفشى هذه الشائعات وهل زادت الوفيات على ذلك الشاب وهل تخطت قوات الحرس الرئاسي بوابات القصر وهل هذه القوة مكلفة فعلا بحماية القصر؟
وبدأت وسائل الإعلام في المرئية والمسموعة والمقروءة تتابع سير الغاضبين وتنقل الأحداث في بث حي ومباشر وكأننا نعيش لحظات انقلابية وبدأ المجرمون يتوافدون على وسط المدينة مستغليين طيبة الغاضبين.
وفي اليوم الموالي لتدنيس المصاحف تتحدث وسائل الإعلام الموريتانية نقلا عن أخرى عالمية عن حرق العلم الموريتاني في بعض دول العالم الإسلامي وكأن موريتانيا بين عشية وضحاها أصبحت الدنمرك وغدا سيتكلمون عن مقاطعة البضائع الموريتانية .
هي معلومات خطيرة لا تخدم السلم ولا الوئام ينبغي أن نفرح جميعا للعلم الوطني وهو يرفرف في ربوع العالم ينبغي أن نعيش نشوة تألق موريتانيا قاريا ونجاحها في رئاسة الإتحاد وأن لا يذهب بنا المشهد إلى هذا الحد.
تشكل الزوابع والحروب إحدى أهم أسباب الوحدة ولم الشمل ويقول العديد من الساسة والمفكرين أن أمة لم تواجه خطرا من هذا القبيل مهددة داخليا لأنه لا بد أن يدرك الشعب أن هنالك مصيرا مشتركا وأن شيئا يجمعنا و أن هذا الشيء أعز علينا جميعا من خلافاتنا الداخلية .
أعتقد أن هويتنا الإسلامي وهدينا القرءاني أعز علينا جميع من كل همومنا ورغباتنا التي تقودنا في جميع الأحوال إلى الخلاف وأننا اليوم في معركة الهوية الدينية التي ينبغي أن نعمل على إعادة تصميمها بما يرضي الجميع .
وهو المشهد الذي سيشكل الصدمة لأعداء الدين وأعداء الأمة وسيتحقق إن شاء الله وببركة القرءان .
أبادر بالدعوة إلى اقتناء مليون مصحف يتم توزيعها على الأسر في جميع أرجاء الوطن كردة فعل حضرية على هذا السلوك وكرسالة لؤلئك الماردين الذين يتلذذون بتدليس القرءان والمس من رسالة سيد الخلق، فكما كنا بالأمس بلاد القرءان بلاد المليون شاعر فنحن اليوم بلاد المليون مصحف.