عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم زاغت قلوب المؤمنين وكادت العاطفة تودي بهم، حتى لدى واحد مثل عمر بن الخطاب من أشد رجالات المؤمنين وأقواها عبر التاريخ البشري ...ليصل به حدود هول الصدمة إلى تهديد كل من سولت له نفسه تخيَل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل؛ لكن العودة إلى العقل مع الصديق حمت المسلمين أيامها وأعادت قطارهم إلى سكته؛ متجاوزين الحدث الجلل ومتقبلينه، وعاملين لما بعده.
إن سلسلة الأحداث التي شهدها بلدنا في فترته الأخيرة والمستهدفة لصميم كينونته لتستوجب منا التروي والتعقل والتريث...حتى نتجاوز الصدمة قبل أن تجرفنا العاطفة إلى منزلقات قد لا نحمد عقباها، حق علينا بل واجب غضبنا واستنكارنا وتصدينا لمثل هذه الأقوال والأفعال الفاحشة بكل ما أوتينا من قوة (لا مراء في هذا ولا خلاف ولا جدل) لكنه ينبغي لنا أن نتوخى من وراء ذلك الأهداف لا المواقف؛ أنا لا أسعى ـ معاذ الله ـ للتقليل من شأن الخطب الجلل، ولا أرجو التساهل في أمره؛(وأرى التصدي له جهادا) لكن أليس من المشروع لنا بل والمطلوب أن ننطلق من فعل عقلاني واع، لا ردة فعل عاطفية عابرة فنسأل أنفسنا: ما الذي سنجنيه من خلال الخروج العفوي للشوارع ؟ وتعريض الأرواح للخطر ؟ وتعريض الممتلكات للنهب ؟
هل سنحمي من خلال هذا الفعل ( المبرر عاطفة غير المناقش عقلا) مقدساتنا وثوابتنا ؟ أم هل سندرك من خلاله مكمن الداء ومن ثم نعالجه؟
إن التصدي الهادف لهذه الفاحشة المنكرة ـ حسب رأيي المتواضع ـ ينطلق من سؤالين اثنين (تكون الإجابة عليهما هادئة ورصينة) وهما:
من المتضرر من هذا الجرم الآثم ؟ ومن المستفيد منه ؟
إن أسمك خيط ظل يربط نسيجنا الاجتماعي هو تلك المقدسات بكل تفاصيلها فقدسية قرآننا وعصمة نبينا وحرمة مساجدنا وسمومية لحم علمائنا...كلها ظلت ثوابت يتهجى بها أطفالنا وهم يعقلون أولى أبجدياتهم، وتهديد قدسيتها (كمجمع عليه) يعرض عقدنا الاجتماعي للانفراط، ويزيد هوة التنوع بطابع سلبي لم يألفه تنوعنا الاجتماعي الإيجابي من ذي قبل؛ ضف إلى ذلك أن الدولة المسؤولة قانونا وأخلاقا عن السلم الأهلي إذا لم توفر له الحماية ستهتز هيبتها وتتضرر بالتالي من مثل هذه المسلكيات؛ من هنا فإن اللحمة الاجتماعية وهيبة الدولة هما أول متضرر بل ودافع لثمن هذا الجرم الآثم؛ ومن هنا فإننا نكون أمام خطر وجودي؛ فحين يكون الخطر مهددا للمجتمع والدولة معا يدخل الوجود بمفهومه الذاتي دائرة ذلك الخطر!
وهذا الاستنتاج السطحي البسيط قد يحيل إلى توجيه السؤال الثاني وإعادة صياغته؛ فمن الذي يستفيد من تهديد وجودنا ؟ ومن الذي يسعى إليه ؟
أعتقد أن استنساخ نظريات المؤامرة وإسقاطها في هذا السياق وارد وسهل؛ لكنني أرى أن نكون إجرائيين وعمليين؛ لأن ذلك الفضاء النظري التجريدي لا يخدمنا في هذه المرحلة المتسارعة المضغوطة:
ـ على المجتمع أن يتحرك بعقلانية ووعي فيتصالح مع ذاته؛ لتظل مقدساته محل إجماعه وواسطة عقده، ـ على الدولة أن تحمي ذلك العقد المقدس من خلال القانون وقوته.
ـ علينا أن نقفز اليوم ـ في هذا السياق ـ على كل حساسياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية ...حتى نخرج من هذه المحنة بكينونتنا إلى بر الأمان؛ فالبركان يتربص بالكل موالاة ومعارضة ومجتمع...