يقول البعض بأن جريمة تمزيق المصاحف إنما هي عمل موجه ضد السلطة، والدليل على ذلك هو أنها قد جاءت في نفس اليوم الذي دُشنت فيه قناة المحظرة.ويقول البعض الآخر بأنها قد جاءت للفت الأنظار عن منتدى الديمقراطية والوحدة، والذي تم اختتام أعماله في نفس اليوم.
فهل نصدق هؤلاء أم نصدق أولائك؟ أم أنه علينا أن نكذب الجميع وأن نعتبر بأن الصدفة وحدها هي التي جمعت بين تلك الأحداث الثلاثة؟
وهل يكفي أن نقتصر على تلك الأسئلة، أم أنه علينا أن نطرح أسئلة أخرى أكثر جدية، وهي من قبيل هل أن المستهدف من تمزيق المصحف هو تمزيق الدولة الموريتانية، وجرها إلى فتنة سيتضرر منها الجميع، ثم هل أن عملية تمزيق المصاحف، والتي لم يعد هناك أي شك في حدوثها، هل أنها قد تمت وفق التفاصيل التي رواها الشاهد الوحيد في هذه الحادثة أم أنها تمت وفق تفاصيل أخرى؟
إنها أسئلة ملحة يتم طرحها الآن، ولأن مثل هذا المقال قد لا يتسع للإجابة على كل تلك الأسئلة، فإني سأكتفي هنا بالإجابة على واحد من تلك الأسئلة دون غيره، وهو السؤال الذي يقول: هل أن حادثة تمزيق المصاحف هي من تدبير السلطة ومخابرتها أم لا؟
يمكنني أن أجزم بأنه ليس للسلطة ولا لمخابرتها علاقة مباشرة بتمزيق المصاحف، وما جعلني أجزم بذلك هو أن السلطة القائمة كانت هي أكبر متضرر من تلك الحادثة.
ولكن يبقى سؤال آخر أكثر أهمية وهو السؤال الذي يقول: هل تتحمل السلطة مسؤولية تمزيق المصاحف وما سيترتب عنها من أضرار؟
يمكنني وبكل اطمئنان أن أقول بأن السلطة هي من يتحمل المسؤولية في كل ما حدث، يمكنني أن أقول ذلك لأسباب عديدة لعل من أهمها:
1 ـ أن السلطة القائمة هي أول من أعطى الضوء الأخضر للإساءة للمقدسات، وكانت قد أعطت الإشارة الخضراء عندما شجعت، أو خططت مخابرتها، أو سمحت ـ على الأقل ـ بأن يتم حرق مجموعة من الكتب الفقهية في مقاطعة الرياض في وقت صلاة الجمعة . لقد كانت السلطة على علم بأن زعيم إيرا سيحرق كتبا فقهية، إن لم تكن مخابرتها هي من كلفه بدلك، ومع ذلك فإنها لم تفعل شيئا لكي لا تحدث عملية الحرق، بل إنها عملت على تصويرها وتسجيلها لتستثمرها بعد ذلك في صراعها السياسي مع المعارضة.
صحيح أن الإساءة للمذهب المالكي لا يمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال بالإساءة للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ولا بالإساءة للقرآن الكريم، ولكن مع ذلك فلا يمكننا أن ننكر بأن الإساءة لأمهات كتب المذهب المالكي، وتشجيع تلك الإساءة من طرف السلطة هو الذي أغرى آخرين برفع مستوى الإساءة ليصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، و إلى القرآن الكريم.
يضاف إلى ذلك أن تساهل السلطة في التعامل مع حرق الكتب الفقهية، وكذلك تساهلها مع الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ربما يكون قد جعل الذي مزق المصاحف قد اعتقد بأن السلطة إن تمكنت من القبض عليه لن تتعامل معه إلا بتلك الطريقة المتساهلة التي تعاملت بها من صاحب المقال المسيء.
2 ـ ترتفع الآن أصوات مقربة من السلطة مطالبة بضرورة عدم تسييس جريمة تمزيق المصاحف، مذكرة بخطورة استغلالها سياسيا من طرف المعارضة، ولتلك الأصوات الحق، كل الحق، في أن تذكر بذلك. ولكن يبقى السؤال المطروح هو أين كانت تلك الأصوات يوم استغلت السلطة حادثة حرق الكتب الفقهية استغلالا سيئا ضد خصومها السياسيين؟ ولماذا لم تتحدث تلك الأصوات يومها عن خطورة استثمار مثل هذه الإساءات في الصراعات السياسية العابرة، ولذلك فلابد من أن أذكر هنا بأن أول من عمل على تسييس مثل هذه الحوادث المسيئة لمقدساتنا هو السلطة القائمة، وبذلك فإنها تكون قد أعطت الضوء الأخضر لتسييس مثل هذه الحوادث الخطيرة.
3 ـ ينطبق نفس الشيء على العلماء الذين يدافعون دائما عن السلطة، والذين أضاعوا الكثير من مصداقيتهم بسبب ذلك. ولقد استغرب زعيم إيرا، وله الحق في أن يستغرب ذلك، اختفاء العلماء الذين كانوا يطالبون بتطبيق الشريعة في حقه، يوم وعد الرئيس بأنه سيطبق الشريعة في من أحرق الكتب الفقهية، وبعدم ظهور أولئك العلماء لما تم إطلاق سراحه دون أن يطبق عليه الحد. فلماذا طالب العلماء بتطبيق الشريعة لما وعد الرئيس بتطبيقها؟ ولماذا نسوا المطالبة بها لما أطلق الرئيس زعيم إيرا من قبل أن يقيم عليه الحد؟ ثم لماذا خرج العلماء المقربون من السلطة في احتجاجات منددة بحرق الكتب الفقهية ولم يخرجوا لينددوا بالمقال المسيء أو بتمزيق المصحف الشريف؟ أوَ ليس تمزيق المصاحف بأكثر خطورة من حرق كتب فقهية؟
4 ـ لقد انتشرت مثل هذه الحوادث المسيئة لأسباب عديدة من بينها أن الأمن أصبح يسخر كل جهوده وطاقاته ومخابراته وإمكانياته للتجسس على المعارضين، ولبث الخلافات بينهم، ولتشتتيهم، وذلك بدلا من متابعة القضايا الخطيرة التي تهدد أمن البلاد ومقدساته، ولذلك فقد غاب الأمن، ولذلك أيضا فقد وجد البعض الفرصة الكافية لأن يخطط للإساءة لمقدساتنا، ولزرع الفتنة بين مكونات المجتمع في ظل غياب تام لأي متابعة أو مراقبة من قوات الأمن.
ثم إن قوات الأمن تعودت دائما على أن تتعامل مع المتظاهرين السلميين بعنف وذلك بدعوى أنها تعمل على الحفاظ على الممتلكات العامة، فلماذا لا يعتبر الأمن المتظاهرين جزءا من "الممتلكات العامة" التي يجب حمايتها والحفاظ عليها بدلا من التنكيل بها؟
5 ـ تعالت أصوات كثيرة مطالبة بضرورة أن يتحمل الإعلام الخاص ( ولا أقول المستقل) مسؤوليته عند نقل الأخبار، ولأولئك الحق في ذلك، ولكن عليهم أيضا أن ينتقدوا بنفس القوة الإعلام الرسمي، والذي على العكس من الإعلام الخاص، يعيش من الضرائب التي يدفعها المواطن الموريتاني.
فلماذا يتجاهل هذا الإعلام أحداثا كبيرة ؟ ولماذا يُغَيب جزءا كبيرا من الموريتانيين؟ ولماذا يصر دائما الإعلام الرسمي، وخاصة في أوقات الأزمات على أن لا يسمع إلا تلك الأصوات التي تطبل للسلطة القائمة؟
ألم يكن من السخيف جدا أن يظل الخبر الأول على موقع الوكالة الموريتانية للأنباء من مساء الأحد وحتى الواحدة ظهرا من يوم الاثنين هو عودة وزير التنمية الريفية من إيطاليا؟ ألم يسكن سخيفا أن لا يستضيف التلفزيون في مثل هذا اليوم العصيب إلا تلك الأصوات التي لا يمكن أن تنطق بكلمتين إلا وكانت ثالثتهما عن انجازات الرئيس؟ وهل كان يوم الاثنين العصيب هو اليوم المناسب للحديث عن انجازات الرئيس؟
ثم ألم يكن مستفزا أن يتحدث وزيرا الاتصال والتوجيه الإسلامي بتلك الطريقة التي تحدثا بها؟ ألم يكن من واجبها أن يقدما على الأقل التعزية لأسرة الشاب الذي فقد حياته بسبب العنف المفرط من طرف قوات الأمن؟
ختاما : إن موريتانيا تمر الآن بلحظة عصيبة، وإن أول من يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه هو هذه السلطة القائمة، ولذلك فعليها أن تراجع حساباتها، وأن تعلم بأنها لا يمكن أن تواصل قيادة هذا البلد بهذا الأسلوب المتعجرف والمتغطرس.
وعليها أن تعلم بأن وعودها الكثيرة ما عادت تقنع أحدا، خاصة منها تلك التي تتعلق بتطبيق الشريعة على من أساء لمقدساتنا.
على السلطة القائمة أن تفعل الآن شيئا ملموسا وجديا يعيد لها قليلا من المصداقية والثقة، وإلا فعليها أن تعلم بأن ما حدث يوم الأحد قد يتكرر في يوم قادم، وبأسلوب ربما يكون أكثر خطورة..
حفظ الله موريتانيا..