إدانة واستنكار / إسلمو ولد سيدي أحمد

في مقال سابق، بعنوان: "المراهَقة الفِكرية" أشرتُ إلى أن الأقطار العربية تجد نفسها، في الوقت الراهن، أمام تحديات حقيقية، تفرض علينا جميعا – كل من موقعه – أن نكون في المستوى المطلوب، من أجل تجاوز هذه اللحظات التاريخية الفارقة.

و لن يتأتى ذلك إلا بالمزيد من الوحدة و التعاون، و الحرص على تماسك جبهاتنا الداخلية، و تعميق اللحمة بين مكونات شعبنا ، وجعل ثوابت الأمة ومصالحها العامة فوق كل اعتبار. ومن أهم هذه الثوابت، ما يتعلق بالعقيدة، والهوية، والثقافة...كما قلتُ إننا بحاجة ماسّة وملحّة وعاجلة، إلى أن نثبت أننا نتصرّف تصرُّفَ العُقلاء، وأنّ أعمال العقلاء منزَّهَة عن العَبَث. وقد دعوت إلى المزيد من اليقظة ، ومن إعْماِل الفِكْر، وحُسْن التدبير، حتى نبرهن على أننا بلغنا سنّ "الرشد" و تجاوزنا  بذلك سنّ "المراهقة الفكريّة".

ونظرا إلى ما عرفته الجمهورية الإسلامية الموريتانية- في الآونة الأخيرة- من أحداث مؤسفة، فقد ارتأيتُ أن أدلي برأيي في الموضوع، مساهمة متواضعة مني في النقاش الدائر حول أفضل السبل لوضع حدٍّ لهذه الظاهرة الشاذة الغريبة على مجتمع عُرِف- عبر التاريخ- بأنه شعب متدين، حتى النخاع، متمسك بالدين الإسلاميّ الحنيف وبتعاليمه السمحة، وبالقيم الفاضلة المتوارثة على مر الأيام.

وقبل أن أتطرق إلى بعض الجوانب المتعلقة بالموضوع، لا بد من أن أسجل-بكل وضوح-إدانتي وشجبي وتنديدي واستنكاري... لما أصبح يطفو على السطح- في الآونة الأخيرة- من من مواقف وأعمال منكرة، بدءًا بحرق كتب بعض فقهائنا وعلمائنا الأجلاء الذين نهلت الأجيال-في الماضي والحاضر-من معين علمهم الغزير، مرورًا بالكتابات المسيئة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، وانتهاءً بتدنيس المُصحف الشريف الذي يحوي بين دفتيه كلام الله المنزل على أفضل خلقه، محمد عليه الصلاة والسلام. اللهم لا تواخذنا بذنوبنا ولا بذنوب غيرنا ولا بما فعل السفهاء منا !

ودون الخوض في بعض التفاصيل المتعلقة بتلك "الطامة الكبرى" التي تناولتها وسائل الإعلام المختلفة،والمتجسدة في إقدام أيادٍ قذِرة على  العبث بالمصاحف الشريفة وتمزيقها وتدنيسها برميها في أماكن قذرة، أود أن أَلفت نظر المواطن الموريتانيّ العادي، وأذكِّر الكتاب، والصحفيين، والمثقفين، والمفكرين، والعلماء، والفقهاء، والدعاة... وجميع النخب المستنيرة من شعبنا الأبيّ، أريد أن أذكِّر هؤلاء جميعا بأننا نركب في سفينة واحدة، وإن حدث خرق- لا قدّر الله- في هذه السفينه، فإننا سنغرق جميعًا. وللمحافظة على هذا الوطن الذي ننتمي إليه، يجب أن نحرص جميعا على سلامته. وحتى أكون واضحا، أقول إن الإنسان في الوطن العربيّ-والإنسان الموريتانيّ جزء من هذا الوطن- أصبح الخصوم يصفونه بأنه ظاهرة صوتية، وأنّه يهتم بردة الفعل أكثر من اهتمامه بالفعل. يجب أن نركز على العمل الجاد الإيجابيّ، بدلا من انتظار حدوث فعل خارجيّ للقيام بردة فعل عنيفة غير مدروسة، تشبه الحركة اللاإرادية التي تحدث لا شعوريا للشخص الذي تقع قدمه على جمرة فيثب-لا شعوريا-وعلى غير هدًى، فيحطّم ما يقع بالقرب منه، دون وعي بذلك.

أعتقد أنّ المشكلات التي نعاني منها، كثيرة وذات طبيعة مركبة، والقضايا المركبة تتطلّب حُزمة كبيرة من الإجراءات الخاصة من أجل التغلب عليها، كما أنها قد لا تحَلّ بين عشية وضحاها، لأنّ العنصر الزمنيّ له دور فاعل في هذا الشأن. ثم إننا لا نمتلك عصا سحرية لحل هذه المشكلات في طرفة عين.

أطلب من القائمين على الشأن العام ببلادنا، ومن الأحزاب والمؤسسات المعنية، ومن المجتمع المدني، ومن الأفراد المهتمين، أن يقوموا بدراسات معمقة وبتحريات مدققة، من أجل تشخيص أسباب هذه الظاهرة الخطيرة  وسبر أغوارها واكتشاف الأيادي الخفية الآثمة التي قد تكون من ورائها، مع الابتعاد عن الاتهامات الجزافية، ونشر الشائعات.

وحتى لا أطيل، فإنّ رأيي في هذا الموضوع يتلخص في العناصر الآتية:

1-يجب أن نتصرف  بهدوء الإنسان القويّ، الصادق مع ربه ومع نفسه، المؤمن بقضيته، الواعي بما يحاك ضده من مكايد ودسائس، الأمر الذي يجعلنا نوازن بين الحكمة والعاطفة. وذلك على الرغم من أنّ الشعب الموريتانيّ يمكن أن يسامح في أيّ شيء، باستثناء الجوانب المتعلقة بعقيدته، فهي خطوط حمر بالنسبة إليه. يستوي في ذلك الموالي والمعارض والمحايد، وكل الشرائح الاجتماعية. ويجب أن ندرك أنّ هذا الرباط القويّ-رباط الإسلام- الذي يجمعنا، أقوى من أن يؤثر فيه هذا النوع من الهزات.

2-لا بد من المحافظة  على حدّ مقبول من الثقة في  القضاء الموريتانيّ، لتمكينه من أن يتولى-بدلا من الشعب- محاكمة المجرمين وردع المارقين وتطبيق شرع الله فيهم. ولا يعني ذلك- بحال من الأحوال-الكف عن استنكار المنكر بالطرق السلمية التي لا تفضي إلى المس بالأمن العام أو إلحاق الضرر بالأرواح أو بالممتلكات العامة أوالخاصة. وأذكر هنا بالمقولة المأثورة التي كانت تجري على ألسنة آبائنا وأجدادنا، لنتأمّل ما فيها من حكمة رائعة، وما تفضي إليه من حل للمنازعات مهما كانت حادة ومعقدة، وهي: "الگالْ الْقَاضِي مَاضِي"، أي التسليم بحكم القضاء. وأنبّه، في هذا الشأنُ، بضرورة استقلالية القضاء، وبمزيد من الإجراءات الكفيلة ببناء الثقة بين القضاة والمتقاضين، واضعين في الاعتبار أنّ"العدل أساس الملك". والقاضي غير المستقل في قراره لا يمكن أن يكون عادلا.

3-الحرص على بناء دولة المؤسسات، وبناء الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وتوعية المواطن وتحسيسه بأنّ ضعف هذه المؤسسات ليس في مصلحة أحد، لأن ضعف هذه المؤسسات يعدّ من أهم أسباب انتشار الجريمة. ومن المعروف والمجرَّب أن انتشار الجريمة يتناسب تناسبا طرديا مع ضعف السلطة القائمة، في أيّ بلد من بلاد الله الواسعة.

4-وفي الأخير، فإنني أرجو من العقلاء في بلدنا العزيز أن يعملوا جميعا من أجل الوصول إلى حدّ مقبول من التوافق بين جميع الأطراف السياسية، ومن الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، آخذين بعين الاعتبار أن هذه الثقة-حتى وإن فُقِدت- فإنّ ذلك ليس مبررا لتدمير الوطن، على قاعدة"علي وعلى أعدائي". ومن المفروض أننا لم نصل-لله الحمد-إلى هذا المستوى من العداء.

6. مارس 2014 - 15:48

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا