أخيرا، قرر محمد بن عبد العزيز أو قُرِّرَ له أن يفعل الفعلة التي قارفها سلفه وولي نعمته الرئيس الأسبق معاوية، كلا الاحتمالين وارد، فللجنرال من سوء التقدير ما يجعله يرتكب حماقة بحجم مواجهة التيار الإسلامي في موريتانيا كما أن جشعه وعينه المركزة على أنواع العملات قد تنسيه العواقب.
لقد كان واضحا منذ الانقلاب على العقيد أن عاطفة الجنرال المزعومة تجاه الإسلام وموقفه من الإسلاميين لم تكن حبا لمنهجهم وإنما ظنا منه أنه بإمكانه أن يتأبطهم حقيبة صفقات يربح منها مزيد أسهم، ولكن القوم كانوا أكبر من حقيبة يد وأعرق من الاستخفاف، مات حينها الجنرال مرتين، مرة حين فشل في استدراجهم نحوه ومرة حين كانوا غريمه العنيد في صناديق الاقتراع، هنا بدأت عقلية الحانوتي تبحث عن فرص أخرى للاستثمار.
لم يطل البحث هذه المرة. لا أثمن من صفقة ثمنها أكوام الدراهم والريالات ومُثمَنُها حرب شاملة على الإسلام ومنابعه وحملة مشروعه، لكن هذا الخيار بوابة مشرعة إلى الهاوية، ذكريات العقيد المعَلِّم ما تزال غضة طرية وصرعى مواجهة معاوية مع الإسلاميين ما تزال مياسم العار بادية على خراطيمهم الوقحة، لا مناص من قسمة الأعشى:
فقلت ثُكل وغَدْر أنت بينهما *** فاختر وما فيهما حظ لمختار
يبدو أن الجنرال اختار الغدر جهلا منه للمرة المائة أنه اختار الاثنين من حيث لا يشعر، فالغدر سيؤدي به إلى كل رزء.
قمة الغباء أن يقذفك الموج بجثة ميتة ما تزال مثَبَّتَةُ على ظهر بالونتها المثقوبة التي حَسِبَتْها ذات مغامرة زورق نجاة، ثم تأخذ أنت نفس البالونة وتقذف بنفسك في مواجهة ذات الموج، هل يتوقع الغباء مصيرا أفضل! هذا فقط أود منك أنت تحفظ هذا البيت ولو كلفك تردادَه ألف مرة:
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها *** فأول راض سيرة من يسيرها
أما الإسلاميون! أما الإسلاميون فجيل أعد نفسه للبلاء ووطنها على مقدور الله وهل يمكن أن تلحق بهم أذى أكبر من القتل! هنا سيتخذ الله منهم شهداء، ولقد يخيل إلي أن الله ساق لهم هذه المحنة ليكرم شيوخا ونساء سلخوا أكثر من أربعة عقود ركضا إلى الله في احتساب يغبطون عليه، وأن الله يهيؤهم للفوز بالشهادة في سجن طاغية أو في نفير ينكر بوائقه، ولله في مقاديره حكم عالية.
إغلاق منافذ الخير التي كان يفتحها الإسلاميون بإخلاص على مجتمع لا راحم له، تعليما لدينه وتثقيفا لعقله وتربية لروحه وغذاء لبطنه ودواء لسقمه وعلته.. فكرة ساذجة لا إبداع فيها ولا تميز، وخدعة انطلت على عسكري لم يتلق تعليما كافيا لاستيعاب الدروس، قفز الجنرال على كبة الجمر ولم ينتبه إلى أنه ما يزال بحاجة إلى قفزة ثانية ـ ككل الواطئين على الجمرـ لكنها ستكون إلى زبالة التاريخ.
بهذه الخطوة الرعناء يوسع الجنرال دائرة خصومه، لقد كانت تنازله سياسيا نخبة معدودة، أما اليوم فسينازله مجتمع كامل، ستلعنه المرأة المريضة والشيخ العاجز واليتيم الباكي، ستحاسبه الفتاة التي حرمها تعلم الطهر والطفل الذي منعه من ارتياد مدرسة نموذجية، وهل المجتمع إلا أحد هؤلاء، بل ستنازله الأبدان التي حرمها الدواء والبطون التي منعها الغذاء والعقول التي حال بينها وبين النور الذي تستمد منه صحيح عقائدها ونقي فقهها.
لا يأخذك الجنون يوم تجد نفسك خارج القصر متأبطا شماتة الأعداء وعار الأبد فأنت رضيت هذه السيرة يوم قررت أن تواجه ضمير المجتمع الحي وقلبه النابض وكفَّه الدافعة للسوء.
ما يجهله الجنرال ورجال الإرهاب وفقهاء التصديق من حوله أن المستقبل والنور وغيرهما مبادئ تحميها قلوب مؤمنة وترعاها أفئدة صادقة، إنها ليست عناوين تنزع وإنما هي نصوص طاهرة سقيت بماء الإخلاص ودم التضحية، وما يجهله الجنرال وحده ـ وإن علمه من حوله ـ هو أن ريشه الورقي الذي استنبت سيكون نهاية عهده.