لا تخفى صلة الدم الانقلابية بين نظام عزيز ونظام السيسي، ولا تخفى رغبة النظام الحالي وحاجته الماسة للحصول على الدعم المالي من بعض أنظمة الخليج المحسوبة على الاتجاه التصعيدي ضد الحركات الإسلامية؟.
ولاشك أن ولد عبد العزيز يتهيأ لضرب الإسلاميين في بلدنا إن استمر في النهج الحالي، بدءا بحل نشاطهم الجمعوي، الذي يعتبره السند المالي والاجتماعي لنشاطهم، وربما وصولا إلى حل حزب "تواصل"-لا قدر الله- بعد اعتقال الرموز وبعض الأتباع، ومحاولة توريطهم ضمن إتهامات مفبركة تماما.
ولاشك أن هذا التوجه جلب على مصر الويلات المختلفة، وخصوصا الأمنية والاقتصادية، وفي البند الاقتصادي اعترف السيسي بالمأساة المعيشية، واعتبر ذلك ورطة حقيقية دون كناية.
وما ذهب نظام ولد الطايع، إلا تحت ضغط وآثار ظلم الإسلاميين، وتوريطهم والتصعيد المفرط ضد وجودهم، سواء عنينا التيار القريب من الإخوان أو جماعة التبليغ أو التيار السلفي.
إن الإسلاميين في موريتانيا من أكثر الناس جدارة بالحرية وتشريع نشاطاتهم السياسية والجمعوية، ذات الطابع الدعوي والاجتماعي ، فهم مسلمون مسالمون، لم يحملوا السلاح، وأعني هنا التيار المحسوب على الإخوان وكذلك التبليغيين وأغلب السلفيين، سوى القلة المنحازة للقاعدة، ولا داعي البتة لمحاربة اللون الإسلامي، بغض النظر عن موقف بعض الدول العربية الخليجية المتحفظة من نشاط الإخوان وإسهامهم في الربيع العربي والتغيير السياسي الجذري، الجاري في الوقت الراهن في المنطقة العربية بوجه خاص.
إن المواطنين سواسية أمام القانون النابع من الشرع الإسلامي، والتضييق على الحريات بحل جمعية كبيرة مثل جمعية المستقبل، والمحسوبة على الشيخ والعلامة محمد الحسن ولد الددو، وقطع البوليس للمؤتمر الصحفي لـ"أحباب الرسول" صلى الله عليه وسلم، واعتقال بعض الزملاء مؤقتا، وتهديد بعض القنوات بالعقاب، كل هذا مؤشرات عهد جديد، بات واضح الملامح والمخاطر على مكاسب الحرية الهشة، التي انتزعها الشعب الموريتاني إثر نضال طويل للإنعتاق وتنفس الصعداء.
فهل الأمر ضمن تنسيق عربي، تدخل فيه دول معروفة، مثل مصر وموريتانيا والسعودية والإمارات، له خلفياته المكشوفة، من أجل سعي موريتانيا للتمويل في وجه انتخاباتها الرئاسية المرتقبة، وضمان إضعاف الخصم الإسلامي المحلي المنتظر دخوله في المنافسات الرئاسية، والحصول على دعم موريتانيا بوصفها الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي للإسهام بفعالية لرفع الحصار الإفريقي عن مصر، ومنع ولوج موجة الربيع العربي إلى دول الخليج، خصوصا السعودية والإمارات والبحرين.
وبغض النظر عن صحة هذا التحليل أو المبالغة فيه، وبغض الطرف عن أحقية الدول في حماية مصالحها، فإن موريتانيا ينبغي أن تحرص على كيانها واستقرارها الهش قبل فوات الأوان.
فهذه المعركة الصريحة ضد الإسلاميين ونشاطهم الدعوي والسياسي والاجتماعي، خاضها ولد الطايع، وكان الضحية هو ونظامه، وبقي الإسلاميون أكثر قبولا لدى المجتمع وأقل تضررا.
وخير للأنظمة أن تسلك طريق السلم والمناورة والتفاوض، بدل المواجهة العبثية العنيفة وتلفيق التهم، مثل محاولة ربط الإخوان المسلمين، بمنظمة الماسون الصهيونية اليهودية الآثمة، فالإخوان سنة، إسلاميون بعيدون عن العنف، وهم حسب تاريخهم وواقعهم من أكثر الحركات الإسلامية سلمية وأصالة وتوازنا، وقد تحقق بعض الأنظمة العربية بعض مصالحها أو كلها، دون حاجة لتحريض، قد لا يقنع إطلاقا.
ومن المعروف أن الكثير من الأوساط العربية، قد تجاوزت بعمق مرحلة التخويف والتخوين والحملات الدعائية الفجة، فالأولى والأنسب ترجيح طريق المسالمة على طريق المهاجمة والتحامل العشوائي.
وأما موريتانيا، فمن مصلحتها مراجعة هذه السياسة الهجومية، والابتعاد عنها.
فالوضع الحالي تمهيد للدخول الواسع في مسرح الهجوم على كل ما هو "إسلامي".
فعندما شاع خبر حادثة المصحف، الذي وجدت بعض صفحاته ممزقة، رغم غموض الواقعة، هل تمت عمدا أو من قبل قاصر مثلا، اهتزت فرائص النظام عندنا، واستنجد بوزرائه وفقهائه ومازال، واضطر لمنع التظاهر والتضييق على المظاهرات السلمية، بحجة وجود مفسدين مفترضين، وركز بعض الفقهاء على الإعلاميين، وما يقومون به من دور سلبي في صدد التصعيد وتضخيم الوقائع وصب الزيت على النار-حسب رواية بعض هؤلاء- وتحول المتظاهرون السلميون إلى ضحية، فسقط أحدهم شهيدا بإذن الله، واعتقل بعض الشباب، ورغم عدم وجود شكاة بحجة سرقة ممتلكاتهم أو إتلافها، ركز على هذا الجانب تركيزا زائدا، وكان الشعب ليس له حق الغضب السلمي، عندما تمس أغلى مقدساته ومبادئه، وبدا حفظ النظام "كلمة كلمتين" هو الأولى، وتم التشكيك رسميا في صدقية حادثة تمزيق المصحف.
إن تأكيد تفاصيل هذه الحادثة وتأكيد القصد الجرمي من ورائها، قد يكون من شأن القضاء، لكن التواتر تم، بالحصول على أوراق ممزقة من المصحف.
ألا يكفي هذا للتحذير من المساس بمقدساتنا وحرمات ربنا وكلامه المعصوم المحفوظ؟.
ولا ترحيب في المقابل بمسيرات مفسدة للمال أو مكدرة لصفو الأمن العام أو الخاص، ولكن على الجميع أن ينكر هذا المنكر، قال تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".
وليكن دور المتظاهرين والإعلاميين بمسؤولية ومهنية، وأما السكوت على موجة الإلحاد فمستحيل، ولماذا الخوف من دعاة الإلحاد والاستهزاء بالدين وتراثه، وحساب ألف وألف حساب لمواجهتهم، بسبب مناصرتهم حقوقيا وغربيا، والتضييق على هبة الإسلاميين وأنصارهم والمسلمين العاديين من مختلف المشارب، والتصور بأن شل نشاطهم سهل متاح.
أكيد، لن تكون كلفة مواجهة أهل الحق سهلة مستساغة، مهما كانت تصريحات الوزراء وبعض الفقهاء من وعاظ السلاطين، الذين يكثرون عندما تتهدد مصالح النظام، ولا ترى لبعضهم معرة وجه، عندما يتم قمع الحريات وسلب الحقوق والحرمات.
أحذروا يا حملة بعض العلم الشرعي، أن يكون بعضكم مجرد بوق للنظام، ولا يهمه الحق في شيء، خوفا أو طمعا، فلن يحترمكم الناس إن حرصتم على رضوان رأس النظام، وتهاونتم بمصالح الشعوب ورفعة مبادئها الإسلامية وصيانتها من العبث، فخير لكم كلمة حق عند سلطان جائر.
ونقول في هذا المقام وبصراحة، لا نساند الفتنة والتوجه للعنف في أي تظاهر أو قول أو فعل، ولكن لا نطأطئ الرأس، خوفا أو طمعا في مخلوق أيا كان، وإنما الخوف من الله والطمع فيه، وليس في سواه.
إن الاستقرار غاية في الأهمية، لكن ليس على حساب قول الحق بحكمة وسلم وأمانة.
إن الوطن قادم على المجهول، في جو من الإساءة للحرمات والمقدسات والاعتداء على العلماء وإغلاق المؤسسات الإسلامية، وهذا كله حمل ثقيل على كاهل دولتنا، إن لم تتضافر جهودنا للتعايش الايجابي، ونتحد ضد كل ما يسيء لديننا ومكسبنا الأمني الهش.
وما سوى ذلك لا يزيد الطين إلا بلة، فرغم الاستبداد وعسكرية النظام، شهدت لنا بعض المنظمات الغربية العتيدة، مثل مراسلون بلا حدود بتفوقنا عربيا في مجال حرية الصحافة، فهل نفسد هذا المكسب الهام، بمواجهة غير مبررة ومجانية ضد بعض وسائل إعلامنا الحرة المبدعة، بحجة أن أحد الفقهاء المقربين من النظام، قال هذا سببه الصحافة، دون الرجوع لحقيقة الوقائع، فمن أخرج المتظاهرين ليس الصحافة، ومن قتل أحد المتظاهرين السلميين ليس الصحافة طبعا.
واختصارا من مصلحة الجميع، حتى النظام، خصوصا قبل الرئاسيات المرتقبة، التهدئة، وعدم التصعيد، والحرص على احترام وتكريس هويتنا الإسلامية، والوقوف بحزم في وجه موجة التلاعب بالدين ورموزه، وأما التناغم مع مصر أو غيرها في هجمة مفتوحة على أنصار الحركات الإسلامية، فهذا هو عين التقليد الأعمى وعاقبته وخيمة معروفة، ولا داعي لربط سياستنا المحلية بأجندة الآخرين، فلهم أوضاعهم وحساباتهم، ونحن أحرار في الاحتراز من التقليد وتكرار التجارب غير المأمونة.
وإذا كانت الموجة المعادية للإسلاميين في عهد الرئيس معاوية قد انطلقت في بدايتها ضد المعهد السعودي نفسه، وبضغط وقتها من أمريكا، فإن الهجمة الحالية تأتي في وقت إصدار السعودية موقفها المناهض بقوة للإخوان المسلمين، والسعودية بلد خدم الإسلام كثيرا، دون الرجوع لتفاصيل وضعه السياسي الخاص، وهو أول نظام أستقبل الرئيس المنتخب المصري محمد مرسي، لكن حسابات ضد الربيع العربي الحالي، قد تكون وراء الموقف الراهن، وحق الاختلاف موجود، والخلاف لا يفسد للود قضية.
فإذا كانت السعودية ارتأت الدخول في هذا المسار، فموريتانيا أضعف، وقد لا يناسبها سبيل الهجوم على الإسلاميين مجانا، وخلق عداوة معهم، ومع المجتمع المحلي ذي الطبيعة الإسلامية البحتة، مما قد يؤدي للمزيد من الهشاشة والتمزق في المجتمع نفسه، فالوضع عندنا شديد الحساسية والتأثر ومثل هذه الإجراءات، مثل حل جمعية المستقبل وغيرها، قد تعني بداية معركة قد لا تنتهي إلا بعد ضياع أمني وسياسي شبه كامل، وفي وقت وجيز لا قدر الله.
فلماذا نتعمد دائما الدخول في الأزمات الواضحة المخاطر، دون قبول لسماع النصح والتنبيه قبل فوات الأوان، وبعد السقوط في أتون التفكك والصراعات، قد نستيقظ لاحقا تحت الصدمة، وفي وقت متأخر، ولات حين مناص.
وفي جو تمنع فيه التظاهرات السلمية بحجة أو بأخرى، ويتصاعد التنسيق ضد الإسلاميين الوسطيين وسط إجراءات عملية تصعيدية تم اتخاذها حتى الآن، مثل حل أكبر جمعية دعوية وتعليمية في البلد، وقبيل حملة رئاسية يسعى النظام بكل جهد لتمويلها ودعم نشاطه الاقتصادي من خلال التمويلات الخليجية، لا نستبعد المزيد من حصار الحريات، فلا نملك إلا أن نركز على النصح بضرورة التعقل وأخذ العبرة، مما حدث من قبل هذا المنحى.
أجل، عسى أن لا نكرر ورطة سابقة، لن تزيد الواقع إلا تأزما وتعقيدا.
وقد لا تحتمل موريتانيا المزيد من الأزمات، فالحذر من رفع مستوى التأزم، فقد يؤدي ذلك تلقائيا إلى انفجار الوضع، ليصبح العلاج مستحيلا.
والنظر إلى أوضاع بعض الدول والمجتمعات يثير الشفقة كثيرا، لما وصلوا إليه من هوان وضعف، نتيجة لاستفحال أزماتهم السياسية.
فبدون التهدئة واحترام كافة الفرقاء، قد نجد أنفسنا بصورة مفاجئة في أتون مأزق مثير للفزع والحيرة، فهل نصحو قبل فوات الأوان؟.