تعتبر العاصمة الاقتصادية نواذيبو رئة الاقتصاد الوطني وذراعه الذي يرسل خيراته إلى بلاد ما وراء البحار ،كما تعتبر الموطن لكبريات المؤسسات الاقتصادية العمومية والخصوصية والوطنية والأجنبية التي ما تزال بعض هياكل بعضها التي تحولت إلى خراب مزارا لطلاب الذكريات من عمال تلك المؤسسات المندثرة حيث لا تزال مسمياتها عالقة في الذهن الجمعي لسكان عاصمتنا الاقتصادية .
وتختزن الذاكرة التاريخية لقدماء العمال بنواذيبو صورا متألقة لنضالات شهدتها ساحات ودهاليز تلك المؤسسات كان أبطالها قادة العمل النقابي في عصره الذهبي حيث سطر فيه سدنة العمل الحقوقي العمالي ملاحم ما تزال اصداؤها تتردد في الأفق الممتد عبر الشمال الموريتاني حيث معقل الشركات التي تجني المليارات على أكتاف عمال تبخل على معظمهم حقه في الترسيم والضمان الاجتماعي.
إلا أن نصاعة ذلك العمل النقابي الصادق ما فتئ أن دنستها الأطماع ومحاولة أرباب العمل وبدعم وتمالئ من الدولة فتراجع القهقرى وظهرت طبقة جديدة من قادة العمل النقابي برأيي أنهم تناغموا مع "السنفونية" التي عزفها أرباب العمل والدولة .
وكانت النتيجة ضياع حق العمال وتسريح الآلاف وتنكيل رب العمل بعملائه وفي غفلة من قادة النقابات الذين انشغلوا في بناء ذواتهم ونسج علاقات مع أرباب العمل ولو على حساب من وَكلوا لهم يوما ما مهمة الدفاع عن حقهم .
أنا هنا لا أطلق الكلام على عواهنه بل عندي من الشواهد ما لا حصر له فالمترددون على مقار تلك النقابات العمالية والملفات التي تنوء منها أدراج محكمة الشغل بالولاية والتصريحات التي يطلقها العمال المتضررون من المؤسسات والنقابات على حد سواء للصحافة هي دليلي على إطلاق هذا الحكم .
تلك هي أبرز معالم العمل النقابي على مستوى العاصمة الاقتصادية ويمكن أن ينضاف إلى ذلك كله "نجاح" هذه النقابات في تدجين العمال وترويضهم على قبول الضيم والخضوع لرغبة رب العمل عن قصد أو عن غير قصد وما خُفُوت الحراك العمالي في العقود الأخيرة إلا دليل على ما ذهبت إليه .
الجرنالية نجاحات رغم الإعاقات ..
وفي سياق حديثي عن الحراك العمالي بنواذيبو أجدني مضطرا للوقوف على ظاهرة صحوة عمال المقاولة من الباطن "الجرنالية" الاستثنائية ، التي تعتبر في الآونة الأخيرة خروجا للمارد من قمقمه ويمكن إرجاع ذلك النضال المتميز "للجرنالية" إلى "كفر" معظمهم بجدوائية الانخراط في العمل النقابي وحرصهم على العمل بعيدا عن حياضها .
فقد لمست في أكثر من التصريح لبعض قادة حراك "الجرنالية" الأخير ما سميته بظاهرة "الكفر بجدوائية " العمل داخل إطار نقابي ، في البداية استغربت ولكن بعد مضي هؤلاء في طريق نيلهم لحقوقهم وتنظيمهم لمئات الوقفات الاحتجاجية والمسيرات أدركت أنهم كانوا على حق في حالة "كفرهم تلك " .
حاول قادة كبار لبعض النقابات العملية اختطاف نصر حراك "الجرنالية" وتبنيه إلا أنهم جوبهوا بمقاومة عنيفة .
إن قصة نجاح "الجرنالية" يمكن وصفها باختصار بأنها تجسيد لعملهم خارج الإطار النقابي مع أني أدرك ما لذلك من خطورة إلا أنني أتفهمه في ظل الضعف في أداء كبرى النقابات العمالية على مستوى العاصمة الاقتصادية .
فرصة لتدارك الأمر ....
رغم أني لا أؤمل كثيرا من وراء الاعداد الهائلة من المركزيات والنقابات العمالية بنواذيبو أو على الأقل خلال العقود الماضية إلا أن فرصة ما تزال سانحة لها في العودة إلى مجدها والتصالح مع تاريخها المجيد الذي تختزنه كل قطعة معدن وكل قطرة ماء من المحيط ، شاهدة على نضال أسلاف لهم يبدو أن خلفهم لم يكن خير خلف لخير سلف .
إن هذه الفرصة تكمن في تصوري بالتصالح مع العمال وتقديم مصالحهم على كل ما سواها والانطلاق نحو بناء جسر الثقة المنصرم بين قادة النقابات العمالية واليد العاملة في المؤسسات حتى هذه اللحظة والعمل على وضع حد لسياسة تفريغ العمل النقابي من محتواه التي تنتهجها الدولة وأرباب العمل عبر الترخيص لعشرات النقابات الصورية والتي لا تنشط إلا لتعيق حراكا عماليا أو تمنع عاملا من نيل حقوقه .
إن ارتماء قادة النقابات في أحضان العمال هي المنهجية الوحيدة لترتيب البيت الداخلي وعودة القطار إلى السكة والانطلاق من جديد نحو أداء نقابي يعيد التاريخ ويصنع مجدا لعمال ما تزال أطماع أرباب العمل وضبابية قوانين العمل في الدولة تنهكانه وتدفعانه إلى ركن قصي .