كتبت هذا الرد في الأيام الأولى لنشر المقال، لكني ترددت في نشره، وها أنا ذا أفعل..
كتب الكاتب: "لقد تميز الرئيس (ولد عبد العزيز) عن الرؤساء الذين سبقوه لإدارة شؤون هذه البلاد بالميل إلى التواصل المباشر مع الناس"..
أقول: لا أنكر هذه الميزة، بل امتدحتها كثيرا، لكننا ننتظر نتائج ذلك التواصل المحمود على أرض الواقع، فالتطبيل واللقاءات لا تغني من جوع وحدها..
وكتب: أن المجموعة الشبابية الجديدة تسعى إلى "خلق إطار تشاور، و تفاكر، وتفاعل مع السيد رئيس الجمهورية حول كل القضايا الوطنية والطرق الملائمة لمقاربتها قصد تحديد معالم الحلول التي تتطلبها"...
أقول: إلى متى سيظل الرئيس يتشاور؟ منذ وصوله إلى الحكم وهو يتشاور، فإلى متى؟ وليست هذه المجموعة المغمورة من الشباب أول من تشاور معه ولن تكون الأخيرة إن فاز في الإنتخابات القادمة (وسيفوز طبعا).. وهنا أشير إلى أنني انتقد المتشاورين معه بالدرجة الأولى، فالعيب فينا أكثر مما هو فيه، فما منا إلا باحث عما يسد به نهمه وفقر نفسه، إلا قليل، و"كما نكون ... علينا"..
وكتب: أن الشباب سوف يتشاور مع الرئيس "حول مختلف جوانب الحياة الوطنية".. وذكر أمورا كثيرة لا يمكن لهؤلاء الشباب حل أقلها شأنا ("كان غيرهم أشطر"، كما يقول المثل المصري).. لكني لاحظت أن هذه الجوانب غطت كل شيء ما عدى الجانب الخلقي والديني، كأن من طبق الديمقراطية تطبيقا حرفيا، وتمكن من بناء المصانع والمعامل زكت نفسه، وأصبح من الصالحين، ودخل الجنة من اوسع أبوابها!!..
إن الجوانب التي ذكر الأستاذ، أهم منها الجانب الديني والخلقي، فهو الذي يجب علينا الإنطلاق منه في عملية البناء.. لابد لنا من بناء بشر فاهمين لدينهم متحضرين، والبداية طبعا من المدارس..
لقد حلت أسس الحضارة الغربية للأسف محل أسس الحضارة الإسلامية، وأصبح الحديث عن الفنون الجميلة، والقانون الوضعي، والأدب، أكثر من الحديث عما هو أساسي في حياة المسلم، كأسس وفروع دينه، فالمسلم يعيش من اجل الجنة، والجنة وحدها، وطريق الأخيرة ليس الرياضيات ولا الفيزياء ولا الإخراج السينمائي بالأساس، بل الدين، وهو دين قوي وغني، كل فرع منه علم متكامل قائم بنفسه، يجهل أكثر شباب المسلمين اليوم مجرد وجوده – للأسف- (ك "أصول الفقه"، و"مصطلح الحديث"، و"علوم القرآن"...)!!..
وحتى يتبين لك الأمر، انظر إلى الدعايات الغريبة التي اجتاحت مدارسنا من قبيل كلمة "موهوب"، تقال لكل من يرسم جيدا، أو يتقن الكذب (بكتابة قصة خيالية أو رواية، ولست ضد الكتابة، بل لتعرف درجتها تأمل في وصف قصص القرآن في الآية "ما كان حديثا يفترى"، كذلك تقال كلمة "موهوب" لكل من ينبغ في كتابة الشعر (الذي نزه الله سبحانه وتعالى نبيه عن قوله! ولم ينزهه عن الحديث في العلم بل رغب فيه)، فانظر كيف حلت الثانويات محل الأساسيات اليوم! بل قرأت كتابا في "طرق التأليف"، ذكر صاحبه أنواع التأليف فجعل اسم كتابة الرواية والقصة والشعر "التأليف الإبداعي"، ولم يذكر التأليف في الدين، وهو أصل من أصول المسلمين، وفاتحة خير وبركة على صاحبه، فإلى أي مسلمين تحولنا اليوم (بسبب الإستعمار، والإغترار به ، وللعلم لازلنا مستعمرين ما دامت لنا هذه الثروات التي تنهب ليل نهار أمام أنظار حكومتنا المستقيمة)..
كذلك انحرفت النخبة (نخبة الشياطين) بالأدب والإخراج والشعر إلى العهر، فأصبح الفنان الحقيقي هو الأكثر جرأة ووقاحة، لا توزع جوائز الغرب التشجيعية إلا على أمثاله من الأبالسة، فسطر المسلمون الكفر والفجور في رواياتهم، ونطقوه في أشعارهم، والأمثلة كثيرة لا أرغب في ذكر أسماء أصحابها..
لقد أضاعنا المستعمر للأسف، وبدل أن نجعل من ديننا أساسا جعلناه ثانويا، أصبح التحضر والوعي سمة لمن يتشرب الحضارة الغربية، ويهذي بلغتها، ويتصرف كأهلها راكلا ستار الحياء برجله، وجهنا الأبناء إلى اللغة الفرنسية فزدنا الهوة بينهم وبين دينهم اتساعا، ولا بأس من معرفة كل شيء لكن بشرط أن تكون معرفة الله ورسوله هي الأساس (أي معرفة الدين)..
إن عودتنا إلى ما كان عليه آبائنا ليست تخلفا ورجعية بل تقدما لأن القاعدة تقول إنه "لن يصلح الأواخر إلا ما كان عليه الأوائل"، فهل تطبيق الشريعة، وفرض الحشمة، والعمل بخلق الإسلام تخلفا؟.
والله ليس التخلف إلا في التخلي عن الدين الذي أعزنا الله تعالى به، والمشكل أننا لن نفلح أبدا بعيدا عن ديننا لأننا قوم أعزهم الله به كما قال عمر، فالتطور بعيدا عنه أمر مستحيل كما يتصور بعض دعاة التغريب لأننا ببساطة مبتلون به، فكما لا تقبل الردة والخروج منه بالنسبة لمن دخل فيه (رغم أنف أشباه المثقفين الجهلة)، كذلك لا تكون الرفعة أبدا بدون التمسك به، فافهم ذلك جيدا..
ولكي تعرف قيمة المسلمين راجع التاريخ القريب، ففي زمن محمد علي باشا (عمرو بن لحى العلمانية في العالم الإسلامي، وجالبها إليه)، قال عنه الشيخ محمد عبده: "أضعف المسلمين، وأعلى شأن الكفار، وإصلاحاته هي فقط فيما يصب في صالح اليهود والنصارى.. هزم السلفية في السعودية محاولا تشريدها، وأظهر أن الدولة العثمانية ضعيفة حتى أطمع فيها الغرب، وكان الكفار قبله أذلاء كما في الإسلام" (يلبسون عمائم زرقا لتمييزهم عن المسلمين، ولا يركبون الخيول والبغال حتى لا يكون لهم شأن بين المسلمين ولذلك مئات الحِكم فطالعها).
أرسل المبتعثين إلى الغرب ليغير العقليات، ويبني روبوتات العلمانية الفجار، ووالى النصارى وأعزهم، وسمح لهم ببيع الخمور، وحمل الصلبان. وقد جاء به العلماء ليطبق الشريعة فغدر بهم وحاربهم حتى ألزم شيخ الأزهر داره لا يخرج منها حتى إلى صلاة الجمعة!.
أما ابنه إبراهيم باشا فعندما كان واليا على سوريا أعلى شأن النصارى، فجاءه نفر من علماء الشام يشكون إليه ذلك، فرد عليهم ساخرا: "أنصحكم بركوب الجمال لتكونوا أعلى منهم".
وقد تستغرب أيها القارئ العزيز من ما كتبته الآن، ولا استغرب ذلك منك في هذا العصر الصليبي، لكن ليكن في علمك أن الكفار والذميين عموما كانت لهم أحكام واضحة في الإسلام انطلاقا من عقيدة الولاء والبراء، إذا طالعتها عرفت أن الخوف كل الخوف كان من تشرب الفكر الغربي، وكفره الذي أضاعنا هذه الأيام1..
مثلا كان من الأحكام الفقهية تمييز أي كافر يعيش بين المسلمين عنهم إعلاء لشأنهم عليه، وحثا له على طلب العزة في الإسلام، فإذا زنا الذمي بمسلمة يقتل، وإذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم يقتل، فكان احترام الإسلام والمسلمين فرضا عليه إعلاء لدين الله الذي طرحه تحت قدميه، وأساس حب المسلم مبني على محبة الله تعالى، فكيف يحب من يكره ربه ويعاديه؟! عجبا!
وفي لحظة مراجعة هذا المقال استمع إلى حلقة إذاعية مع السيدة المحترمة التي نجت من جمهورية وسط أفريقيا، قالت بأم لسانها أن الفرنسيين سحبوا السلاح من المسلمين المساكين وسلحوا الكفار الصليبيين (وكانوا يدسون لهم المسدسات في أكياس البسكوت!)، مما كان سببا في تقطيع المسلمين الأبرياء. فهذه فرنسا التي تعبدون، توالي بكل صفاقة من يذبح إخوانكم، وتحبوها أكثر من حبكم لدينكم، وتعرفونها أكثر من معرفتكم لربكم ورسوله صلى الله عليه وسلم..
وإذا كان محمد علي باشا هو رائد العلمانية، فالموجودين اليوم من حكام المسلمين – إلا قليل-، هم روحها وعقلها وشؤمها المتجسد..
ولا يعني هذا أن نكره غيرنا أو نظلمه، لا، أبدا، فالناس سواسية، وإحياؤنا لغيرنا بهذا الدين العظيم خير من الإعتداء عليه أو قتله (كما يفعل البعض باسم الإسلام)، والمسلم العاقل يحب الخير لكل الناس – إلا من أعلن معاداته..
كذلك ذكر الكاتب مصطلح cyborg ، هذا المصطلح منطبق تماما على الإنسان الغربي وكل من اتبع خطاه، فهو آلة تعمل ليل نهار من اجل التمكن من العيش وتسديد فواتيرها، لأن التراحم منعدم في مجتمعاتها، والويل لمن تتقدم به السن أو يعجز عن تحصيل قوت يومه من وحشية تلك الحضارة المادية، وأسوأ ما عندهم هو الجهل بالله تعالى وبرسوله الداعي إلى كل خير وفضيلة..
باختصار: لقد تحدث الكاتب عن الكثير من الأحلام التي من البداهة استحالة تحقيقها خصوصا في اللقاء المرتقب، فكان الأجدر أن يسمى مقاله: "لقاء الرئيس و الشباب: أحلام خير" بدل "بادرة خير"..
سيد محمد ولد أحمد
[email protected]
1 راجع قول الشيخ ابن تيمية في أحكام الكفار والذميين، وراجع كتاب "أعلام وأقزام في ميزان الإسلام"
رد على المقال :
http://rimnow.com/a/78-2012-11-07-10-08-30/2431-2014-02-20-17-54-21.html