بدون شك ثراء الوزراء المشبوه مسألة تعودها الناس، لكن أن يصبح وزير الشؤون الإسلامية ضمن هذه اللائحة، فهذه ظاهرة جديدة تستحق التأمل.
لقد كان الأسبوع المنصرم شديد الإثارة والغرابة، بحادثة ولد النيني، وتفننه في طرق إستعادة ما يدعي من مال.
فإذا جاز الكذب للعامة لتحقيق بعض مصالحهم، التي لا لبس في شرعيتها، فهل من التقوى أن ينصب المسئولون الكبار الفخاخ، في قلب السوق لإسترجاع بعض استثماراتهم المجهولة المصدر.
فلطالما تحدث أهل عرفات عن دكاكين ولد النيني، وتحدث العارفون بسوق العقار عن تزايد عقارات ولد النيني، وتحدث أهل الإبل عن إبله، وأخير أهل العملات عن استثماراته بعشرات الملايين، وما خفى ربما أكبر وأكثر.
فهل جاء لإصلاح القطاع الإسلامي وإنعاشه، أم لجمع المال وحمايته؟.
لقد حرص على التفاهم مع سائر الحكام الذين عاصروه، فقربه ولد الطايع وإعل وسيدي ولد الشيخ عبد الله، وبصورة خاصة ولد عبد العزيز، إنه فقيه بعيد عن المعارضة، لا يصبر على البعد عن ظل النظام، وأخيرا اتضح أنه لا يتورع عن جمع المال في وضح النهار في ظل وزارة ذات طابع خاص، يفترض أن يكون مهابا وفي منأى عن الحديث عن الأورو والدولار وصنوف أسعار العملات.
لكن فقهاء النظام لن يفتوا على الدوام لصالحه دون ربح مادي ظاهري، فهم ما التصقوا بالنظام وعرى النظام إلا لغرض مادي مباشر دون ريب.
على كل حال لقد تضرر ولد النيني إعلاميا وأخلاقيا إلى حد النخاع، فلماذا يشكوه تجار العملات بصورة علنية، ويصبح اسمه قرين المضاربات والمطالبات وهو وزير رسميا للشؤون الإسلامية.
إن حب المال والحرص عليه من طبيعة الإنسان، لكن حين يمتلئ الإنسان علما ومعرفة، ويفترض أن يكون متشعبا بالإيمان، فلماذا يسهل عليه السقوط في ساحة الجري وراء الأطماع والأرباح؟.
لقد كان خبرا غريبا هذا الخبر الذي تناول الوزير بأنه تاجر في قلب السوق، ويسترد أمواله بطرق خاصة أثارت الجدل، ودون تدخل الرئاسة للخلاص من فضيحته المدوية، أو على الأقل توضيح الموضوع من جهات رسمية عليا، وليس من لدن الوزير المتهم.
المتهم فعلا بريء حتى تثبت إدانته، ولكن الوزير، خصوصا للشؤون الإسلامية مسؤول سام وينبغي أن يكون بعيدا عن الشبهات والروايات والروايات الداحضة المضادة، حتى يبقى القطاع الإسلامي على الأقل، الأكثر نقاءا ونظافة من سمعة الفساد والإفساد.
من المؤكد أن أحمد ولد النيني يعرف حكم شراء عملات صعبة بمبلغ مهم دون سداد فوري، والفقهاء يؤكدون في موضوع شراء وبيع العملات على أن تكون يدا بيد، فلماذا يتحجج الوزير بأنه يطالب المعني بكذا وكذا، أليس هذين أمرين مختلفين، فما حكم النازلة يا سيادة الوزير: الفقيه الثري؟.
إنه فقيه موريتانيا الجديدة، في أجواء لقاء الشباب، واستصلاح أراضي اترارزة لأن عاصمتها خرجت عن طوق الطاعة والولاء، إبان الانتخابات المنصرمة.
وما دامت الحكومة أجازت هذا التصرف من طرف ولد النيني، وهو وزير الشؤون الإسلامية، فهذا يعني تحرر الوزراء الآخرين للإقدام على المجهول، فلا نستغرب أن تكون الحكومة الحالية -إذا لم يتم التحقيق في حادثة ولد النيني- من أكثر الحكومات شذوذا في تاريخ البلد فـ:
إذا كان رب للبيت للدف ضاربا فلا تلومن الصبيان على الرقص
أما إعارتهم مستقبلا بعض المال، والتعامل معهم، فهذا صعب المنال في حساب التجار النبهاء.
إن ولد النيني فقيه وعارف بالحكومة ولم يجرؤ على هذا النمط من العمليات إلا وقد سبر غور النظام وعدم الخوف من ردة فعل حاسمة بالإقالة مثلا من المنصب، عقابا على التلاعب بسمعة الحكومة، التي تضررت كثيرا جراء هذه العملية "النينية" التاريخية.
على كل حال أنا موقن أن ولد النيني لا يتمتع بقبول في أوساط الشعب الموريتاني، لأنه لم يحمر وجهه يوما، لإحدى زلات الأنظمة المتعاقبة في حق شعبها، وإنما فضل صحبة الحكومات وسرد دروس الفقه عبر الأثير، والحديث في المقابل عن ثروته كثير ومنتشر منذ وصوله إلى الوزارة، وأما اليوم فقد أصبح محل تندر وتعوذ لدى الكثيرين، فهل يقيله عزيز، عسى أن ينفرد هو وثروته، ليحسبها بدقة ويحصنها بعناية، بعيدا عن وزارة الشؤون الإسلامية التي لا تصلح لهذا إطلاقا.
لقد كان الإمام بداه ولد البوصيري رحمه الله رافضا للخروج على السلطة وغير قابل لمجاراتها في تصعيدها ضد الدعاة والتلاعب بحرمات الدين، وأما اليوم فبعض فقهائنا لا يحتملون الغبن من الكعكة ولا يصبرون طويلا على قول الحق.
أليس هذا زمان النيني وعملاته ومطالباته باسترجاع أمواله، وسكوت عزيز على الجوقة المثيرة.
لقد سقط أغلب الناس في حمأة الطمع والحرص المفتوح على المال بأي ثمن، فلم يعد للعامة من يرشدها للتقوى والتعفف والصبر عما يضر الدين والعرض.
فمتى نراجع أنفسنا وأحوالنا ورموزنا، فوزارة الشؤون الإسلامية رمز، وكان من الأجدر المسارعة إلى إقالة هذا الوزير الفقيه الثري، ليتفرغ للتجارة باسم الفقه، ولنسلم من أن يكون عنوانا عموميا على الأقل.
إن من جمع مال العملات والعقار والإبل، لم يعد متفرغا لهذا القطاع الإسلامي الحساس، فأولى له الخروج إلى دائرة أخرى وبقاؤه في هذا القطاع الوزاري الإسلامي إساءة مباشرة للأمة والوطن.
وسيكون أمره هذا، إن تمت إقالته درسا لكافة وزراء الشؤون الإسلامية من بعده، بل لجميع الوزراء دون استثناء، وإلا فإن اسم وزير سيكون مصدر خوف عند الناس على أموالهم وممتلكاتهم وربما أنفسهم.
فإذا أخطأ الوزير، ولم يقوم فإن ذلك يعني تشريع العدوان باسم السلطة والنفوذ.
أف لهذا المستوى من الإسفاف، وزير اسمه في قلب سوق شعبي للعملات، وعلى صفحات الجرائد والقنوات، تتابعه الأعين والآذان، وهذا الوزير فقيه ويتولى وزارة الشؤون الإسلامية، ما هذا الانحدار المخيف المباغت، ولكن ولد النيني عارف بالكواليس، وربما يعتبر نفسه المستفيد الأقل والأخير، خصوصا أن رئيسه من أغنى رؤساء إفريقيا بطريقة لا تستند –حسب البعض- إلا للنفوذ واستغلال السلطة، وبعد أن خدع الفقراء تحول للشباب وربما يقرن معهم النساء، الشرائح الأقل وعيا سياسيا، وحرصا على الدمج والاشتراك في هذا المسرح المتموج المضطرب.
ولد الددو الذي يبوح بالحق ويحرص على الذود عنه ناطحوه، ولم يصبروا على مهادنته.
أما ولد النيني الذي يبارك لهم كل خطوة، صبروا عليه حتى عندما أقدم على هذه القفزة، التي أضرت كثيرا بسمعة الحكومة ووزارة الشؤون الإسلامية بشكل خاص.
لقد تحولت هذه الوزارة من وزارة قطاع عمومي إلى قطاع لأسرة بعينها، حيث يكثر الحديث عن إعطائه الفرصة للكثير من أهله للحج على حساب الدولة، وتم التلاعب أكثر من مرة براحة الحجاج في عهد هذا "الفقيه الوزير الثري"، وأخيرا لطخ اسم قطاعه بسوق العملات.
كفى تلاعبا بهذا القطاع الإسلامي الحساس.
وإن شئتم أقيلوه أولا تقيلوه، فلم يعد له اعتبار بعد هذا الخبر، فإذا كان قد حاز رضاكم بمباركة سائر توجهات النظام الحالي، وأضحى في الوقت نفسه تاجرا مثيرا للجدل عند بعض تجار العملات، فهذا يكفي لتحريك أكثر من سؤال مشروع في هذا الصدد.
إن المعرفة لا تعني الحصانة إطلاقا، فماهي المعلومات الصحيحة عن قصة تورط الوزير في سوق العملات؟.
هذا السؤال الكبير الملح، جدير بالحكومة الرد عليه بشفافية وأمانة، مهما كان مستوى أدائها، وعلى البرلمانيين تقديم هذا السؤال بسرعة لإشفاء غليله.
إنه جدير بحملة العلم الشرعي أن يعلموا أنهم ليسوا كمن سواهم، فهم مطالبون بالعمل بعلمهم وتوجيه المجتمع للأمثل، وليس لقصة: "هذا مباح لاسترجاع ما خرج من يدي"، فأنتم في موقع القيادة والقدوة، ولا يناسبكم إلا التحرز مما قد يشكل فرصة لإثارة الاستفهامات حول تصرفاتكم ومواقفكم.
لقد كانت قصة الوزير الفقيه مؤلمة ومضرة بسمعة الدولة، وهذه الوزارة بالذات، المرتبطة الاسم بالإسلام.