في الوقت الذي نجد القوم الذين صدروا لنا قانون الربا يحاولون جاهدين التخلص منه ويجمع خبرائهم علي أن الفساد كله ناتج عن النظام الربوي الذي يضمن للغني ان يزيد غني على حساب الفقير ليصبح المال في يد اقلية تتحكم في مصائره
ومع تزايد النقاش حول منظومة الصيرفة الاسلامية من طرف خبراء واقتصاديين غربيين التي أكدت صمودها في وجه أزمة مالية عالمية عصفت باقتصاديات ومؤسسات مالية عالمية وغزوها لأسواق مالية كانت في القريب العاجل حصنا محتكرا من طرف الأسواق المالية الرأسمالية ودخولها لبلدان لا تجمعها بالإسلام سوي النقاشات والصدامات الفكرية. تعرض الحكومة الموريتانية على البرلمان مشروع قانون مصارف مثير للجدل تنص احدى مواده على تخيير المقترض بين دفع المستحقات المترتبة عليه أو مضاعفة الفائدة الربوية ثلاث مرات عليه وهذا ما يعرفه الفقهاء على أنه ربا الديون الذي كان شائعاً في الجاهلية : وهو الذي نزل القرآن بتحريمه، ومعناه: الزيادة في الدين مقابل الزيادة في الأجل وقد كان من بين أسباب أزمة النظام العالمي الأخيرة توقف المدين عن السداد وقيام الدائن برفع سعر الفائدة أو تدوير القرض بفائدة أعلى وهو ما سبب الكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت من تجليات الأزمة
إن القرآن الكريم قد حرّم الرّبا ومنع النّاس من التّعامل به، لما فيه من الظّلم وأكل أموال النّاس بالباطل ، و حديث القرآن عن الرّبا مخيف، وتضمن الوعيد والتهديد الشّديدين للّذين يتعاملون به في كلّ زمان، حتّى وصل التّرهيب منه إلى أنّ الله عز وجل يحارب الذين لا يتركون الرّبا، فقال تعالى :(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ )) صدق الله العظيم
ولا نحتاج للحديث كثيرا عن إثبات حرمة الربا فالنصوص الشرعية واضحة وصريحة من القرآن والسنة وكذلك إثبات أن الفائدة هي الربا بعينه فقد حسم الفقهاء المعاصرون والمجامع الفقهية هذه المسألة وإنما سيكون التركيز على الآثار السلبية للربا اجتماعيا واقتصاديا وخاصة الآثار المدمرة
وسيعزز المقال بأقوال المفكرين الاسلاميين والاقتصاديين الغربيين الذين أدانوا الربا واعتبروه المسؤول عن ما تعانيه البشرية في العصر الحاضر من مشاكل اقتصادية واختلال في النظام المالي العالمي
وقد عدد الشيخ فيصل مولوي عددا من أضرار الربا :
أخلافيا يبدأ بالرغبة بجمع المال لتتحول إلى أثرة وبخل وتكالب على المادة وتحجر القلب
- واجتماعيا المجتمع الذي لا تعاون ولا مساعدة فيه إلا من أجل المصلحة ويغتنم فيه الغني حاجة الفرد للتمول مآله إلى التمزق إلى طبقات متناقضة ومتحاربة.
- الربا هو أهم وسيلة لتضخم الأموال تضخما شديدا وكأن المال الذي يصل إلى أيدي بعض الناس يكون سببا للقعود والترهل ونصب الفخاخ للمحتاجين
- ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء-
و يقول سيد قطب :
" التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه وشعوره تجاه أخيه في الجماعة وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة
ومع الأزمة المالية العالمية انطلقت أصوات في الغرب تنادي بتطبيق أسس في الاقتصاد الإسلامي بعد فشل النظم الوضعية في تحقيق الحياة الرغدة بشقيها المادي والمعنوي للناس. ومن ضمن هؤلاء:
- ففي افتتاحية مجلة "تشالينجز"، كتب "بوفيس فانسون" رئيس تحريرها موضوعا بعنوان البابا أو القرآن أثار موجة عارمة من الجدل وردود الأفعال في الأوساط الاقتصادية. وتساءل الكاتب عن موقف الكنيسة ومستسمحا البابا بنديكيت السادس عشر قائلاً أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود.
وفي مقال رولان لاسكين رئيس تحرير صحيفة (لوجورنال دي فينانس) الذي جاء بعنوان: (هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟)، عرض لاسكين المخاطر التي تحدق بالرأسمالية وضرورة الإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع، وقدم سلسلة من المقترحات المثيرة في مقدمتها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية برغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية.
وقد دعي مجلس الشيوخ الفرنسي إلى ضم النظام المصرفي الإسلامي للنظام المصرفي في فرنسا وقال المجلس في تقرير أعددته لجنة تعنى بالشئون المالية في المجلس أن النظام المصرفي الذي يعتمد على قواعد مستمدة من الشريعة الإسلامية مريح للجميع سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وأكد التقرير الصادر عن اللجنة المالية لمراقبة الميزانية والحسابات الاقتصادية للدولة بالمجلس أن هذا النظام المصرفي الإسلامي الذي يعيش ازدهاراً واضحاً قابل للتطبيق في فرنسا. و أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية - وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي.
وتتوالى شهادات عقلاء الغرب ورجالات الاقتصاد للتنبيه إلى خطورة الأوضاع التي يقود إليها نظام الرأسمالي الليبرالي على صعيد واسع وضرورة البحث عن خيارات بديلة تصب في مجملها في خانة البديل الإسلامي، ففي كتاب صدر مؤخرا للباحثة الإيطالية لوريتا نابليوني بعنوان (اقتصاد ابن آوى) أشارت فيه إلى أهمية التمويل الإسلامي ودوره في إنقاذ الاقتصاد الغربي، واعتبرت نابليوني أن (مسئولية الوضع الطارئ في الاقتصاد العالمي والذي نعيشه اليوم ناتج عن الفساد المستشري والمضاربات التي تتحكم بالسوق والتي أدت إلى مضاعفة الآثار الاقتصادية.....
- ومنذ عقدين من الزمن تطرق الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "موريس آلي إلى الأزمة الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة الليبرالية المتوحشة" معتبرا أن الوضع على حافة بركان، ومهدداً بالانهيار تحت وطأة الأزمة المضاعفة (المديونية والبطالة). وأقترح للخروج من الأزمة وإعادة التوازن شرطين هما تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب 2%. وهو ما يتطابق تماما مع إلغاء الربا ونسبة الزكاة في النظام الإسلامي.
- وأوضح توبي بيرش مدير صندوق بيرش أسيتس لإدارة الأصول في جنيف أهمية التمويل الإسلامي قائلا (ستساعد مبادئ الشريعة مديري الأصول على الانصراف عن الهندسة المالية والتحول إلى المشاركة في المخاطر والأرباح وهو نظام أفضل بكثير).
كما أشار إلى أن كثيرا من المستثمرين ينجذبون إلى الاستثمارات المطابقة للشريعة الإسلامية لأنها تتجنب المنتجات التي يستعصي فهمها على الكثيرين وتركز على منتجات ملموسة موضحا أن "تدمير الأصول الحقيقية أصعب من تدمير المنتجات المالية المعقدة".
وقال إنه من الناحية المصرفية لا يمكن للبنوك الإسلامية أن تقرض سوى ما لديها من ودائع وهو ما يتفادى تخليق الائتمان بكل آثاره التي شاهدناها خلال الأزمة المالية.
وأضاف "عندما نظرت إلى مبادئ التمويل الإسلامي وجدت كل الإجابات فيها".
وكانت المفاجأة الحقيقية أن الدعوة إلى اعتماد قواعد الاقتصاد الإسلامي هذه المرة من قلعة المسيحية (الفاتيكان)، فقد دعت صحيفة الفاتيكان الرسمية (لوبزيرفاتوري رومانو) في مقال إلى اعتماد الأساليب المالية الإسلامية لأنها تشتمل على المبادئ الأخلاقية التي ستعيد الثقة بين البنوك والعملاء.
و مع أ ن المصارف الإسلامية أصبحت أمراً واقعاً في الحياة المصرفية الدولية والإسلامية بعد أن شقت طريقها في بيئات مصرفية بعيدة في أسسها وقواعدها وآليات العمل فيها عن الروح والقواعد الإسلامية ما زالت ضعيفة في بعض الدول الاسلامية من بينها بلدنا الجمهورية الاسلامية الموريتانية بسبب تبوء أصحاب الفكر التغريبي مواقع حساسة في المؤسسات المالية وغيرها وتبعية الاقتصاد وشروط البنك الدولي وسياساته و. هيمنة الأعمال المصرفية التقليدية.
وما من أحد يشك في رغبة الشعب الموريتاني المسلم-كسائر الشعوب الإسلامية الأخرى- الجامحة في وجود بنوك اسلامية حقيقية إلا أن أصحاب الرأي والقرار ببلدنا من الواضح أنهم لا يريدون للنظام المصرفي الإسلامي الحقيقي أن يرى النور؛ لما يشكله من خطر على أصحاب النفوذ من مالكي المؤسسات الربوية وسيطرة الطاعنون في النظام المصرفي الإسلامي القائم على مبادئ الشريعة الاسلامية الذين طعنهم ناشئ عن جهل بطبيعة ومبادئ النظام المصرفي الإسلامي والتبعية العمياء للقوى الغربية المتسلطة الناتجة عن الانهزام النفسي والخواء الإيماني والفراغ الروحي.
واختم كلامي بنداء قرآني عظيم بقوله تعالى :(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ )) صدق الله العظيم