معذرة عن تأخري في الكتابة عن لقاء الشباب، فقد انشغلت في الليلة الثانية و الأخيرة منه في تجهيز الولي الصالح الطيب المطيب المختار ولد محمد النامي ولد الشيخ، ألحقه الله بصالح المؤمنين وأكرم نزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين و الصديقين والشهداء والصالحين و حسن أولئك رفيقا،
رحم الله الرجل وأمنه من الفزع ووسع مدخله وجعل الجنة عوضه عن الولد وما ولد، ورحمنا إذا صرنا مثله إنه ولي ذلك والقادر عليه، رحم الله ضعفه ورقته وبهائه و عفته وورعه، بساطته ومسالمته، المؤمن من أمن جاره بوائقه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.. بعد التعزية مباشرة انتدبت لعمل في دكار، كل ذلك منعني من الكتابة لغاية هذه اللحظة.
على العموم وبغض النظر عن النتائج والآمال فقد شكل لقاء الشباب مع الرئيس حدثا وطنيا تناولته وسائل الإعلام الوطنية والدولية ليس باعتباره سابقة في شبه المنطقة فحسب، بل وكونه التعبير الصريح عن التغيير المنشود من الإشراك في الشأن العام وإشاعة ثقافة المحاورة والمجادلة وكذلك ردم الهوة المجازية الفاصلة بين الشعب وصناع قراره، لم تجد تلك الوسائل رغم تعدد وسائلها وأغراضها وأساليب تغطيتها ما تأخذه على اللقاء لا من حيث الشكل ولا المضمون، كونها مراقب خارجي عن المؤتمرين من الشباب
أما من الداخل حيث كنت في الورشة المتضمنة من بين أمور أخرى البنى التحتية والنقل والاسكان، فقد ضمت ورشتنا تنوعا فريدا شمل جميع الاختصاصات الهندسية المطلوبة لتحديد النقص أو أوجه القصور في أداء القطاعات المعنية، أو التي يمكنها وضع التصور الناجع لمعالجة ذلك وتصحيحه، بل وتقديمه في أعلى رتب التمام من حيث التأسيس لمرجعيته القانونية والفنية، وضبط اجراءاته الضامنة للجودة والمعيارية بما يتفق والمعايير الدولية المحددة له.
في هذا اللقاء التقيت زملاء ضن بهم علينا المهجر، وباعدت بيننا الشقة وشظف العيش ومشاغله، ذلك المصير الذي شكل العبء الكبير على ظهر صاحب كل تخصص يطلب عيشا كريما في بلده، الأبواب مغلقة وطريقك مسدود.
تعرفت كذلك على زملاء جدد يحملون نفس الهموم ويحلمون، كان الجميع على قدر المسؤولية والحدث، فهمنا جميعا أن نقدم التشخيص والحلول، ليس ليتم تنفيذها مباشرة، فنحن الأكثر إدراكا لما يتطلبه الأمر من الدراسة والتمحيص والتمويل والجدولة، كان هدفنا تقديم رؤى تصلح لأن تكون مشاريع للدراسة ليس إلا، ولو أنهم تعهدوا بتنفيذها فورا لخاب أملنا وطفقنا نلعن مشاركتنا في اللقاء. ربما تكون الهندسة مختلفة، أو ربما نكون نحن مختلفين، المهم أن الوضعية المزرية التي تعيشها القطاعات موضوع الورشة سببها الرئيس الارتجالية وسوء التخطيط واشتغال غير المتخصصين بتدبيرها وحسابات الربح الزائف وعدم المهنية والضبابية في التشريع وإجراءات التطبيق وانعدام الروح الوطنية.
نظرا لروح المسؤولية العالية في الورشة لم نستطع الاشتغال بأكثر من ثلاثة مواضيع من أصل ثمانية، بل ولم نتجاوز في أي من المواضيع الثلاثة رؤوس الأقلام في أولوياته من وجهة نظرنا على الأقل.
من هنا يظهر الضعف في التنظيم حيث أعتقد أن اللجنة لم تكن على المستوى الفني المطلوب لتحديد الوقت الكافي لكل موضوع أو ورشة، إن لم أقل إنهم لم يتوقعوا مستوى جدية ومنهية الشباب. نقطة أخرى مهمة لفتت نظرنا جميعا، هي التنقيط الذي تحدثت عنه اللجنة في الليلة قبل الورشات، ذلك التنقيط المشبوه، الذي مكنها من إعطاء الفرصة لبعض الأشخاص للحديث مباشرة دون قرعة ولا اختيار من الرئيس في الليلة الأولى، طبعا جرت أحداث الليلة الأولى بغير ما تم إبلاغنا مسبقا، حيث تحدث المنظمون عن اختيار عشوائي يتم عن طريق صناديق تشبه صناديق الاقتراع يستل منها رئيس الجمهورية أسماء من سيعرضون مشاريعهم، وهو الشيء الذي لم يحصل، بل وإن أغلب المتحدثين في تلك الليلة لم يعكسوا الصورة الحقيقية للمشاركين، حيث لم يتحدثوا عن أي فكرة يمكن أن تكون أساسا لمشروع فضلا أن يقدموا مشاريع، على الرغم من ان اللجنة المنظمة ادعت أنهم أصحاب المشاريع الحاصلة على أفضل تنقيط، ربما يكون تنقيطا عكسيا قلت ولا قول لي.
القضية الثانية التي أردت أن أبرزها من خلال هذه الحروف، تمثل ردود الفعل والتي ربما تعكس مدى أهمية اللقاء من ناحية أخرى، وهنا لا بأس بتنشيط الذاكرة قليلا للرجوع إلى تلك الأمسية، حيث اختارني الرئيس رئيس الجمهورية للحديث وتم تنبيهي على ضرورة الالتزام بالوقت المخصص والذي قدر بدقيقة ونصف، وعلى الرغم من احترامي التام للوقت تلك الليلة، وبالرغم كذلك من إيماني بأن كل شخص مؤهل يمكنه الكشف عن جميع أفكاره في وقت أقل من ذلك بكثير حتى ولو اضطر لتعزيز قدراته في استخدام جوامع الكلم، إلا أنني أجهل الأساس العلمي لذلك التقدير الاعتباطي من وجهة نظري لأن العدل يتطلب في أغلب الأحيان عدم المساواة، وتقدير الوقت بدقيقة ونصف لجميع المتدخلين من جميع الورشات عندي أقرب للمسرحية منه للموضوعية.
على كل حال فقد عرضت في كل نصف دقيقة من وقتي الغالي فكرة، ولعل مجموع الفكر يعطي فكرة أخرى عن ترابط الفكر، أما مجال تحويلها إلى مشاريع مفيدة للبلد فهو ما ستقرره الدراسة من جلب للمصالح وتصحيح للوضع المعوج والهدام.
تناولت الفكرة الأولى إنشاء (الترام وي) للمطار والجامعة أو حتى للمدينة كحل يضمن سلامة وأمان وانسيابية وتوفر ورخص النقل، وهو الضامن لحل شامل لأزمة متفاقمة ومستعصية، ونبهت في هذا الخصوص على وضوح الرؤية ضاربا مثلا بطريق الأمل الذي لم تتمكن جميع الدراسات وقت انشائه من إثبات جدوائية اقتصادية لإنشائه، بينما لا يختلف اثنان على جدوائيته اليوم. في نفس السياق بينت إمكانية انشاء (الترام وي) بجهد وخبرة وطنية وذلك من خلال إنشاء الشركة الوطنية للسكك الحديدية وفصلها كليا عن (اسنيم)، والتي يعهد إليها بإنشاءات السكك والتي نوصي بأن تكون مؤسسة مختلطة.
في الفكرة الثانية تناولت إنشاء أكاديمية للأرصاد الجوية والطيران المدني وضربت مثلا بسنغافورا وكوريا، وشرحت الحاجة الماسة والنقص الكبير في هذين الاختصاصين على مستوى البلد وبلدان شبه المنطقة، وبينت كذلك المستوى والكم الواعد من المأطرين والمدربين والمكونين الموريتانيين في حال خضوعهم لبرنامج قصير للاطلاع بمهمة التكوين الأولي والمتخصص والتأهيلي.
أما الفكرة الثالثة فجاءت حول إدارة القدرات البشرية في مجال الأرصاد الجوية حيث أثرت مشكلة كبيرة وحلها بسيط من وجهة نظري على الأقل، مرتبطة بالهيئة الوطنية للأرصاد الجوية من حيث الكادر البشري، فمن المفارقة الكبيرة أن تنعم مؤسسة ربحية -صحيح أننا مؤسسون لها- بكادر بشري موريتاني ممتاز، بينما تفتقر الهيئة الوطنية للأرصاد الجوية لمتخصصين في المجال فقرا مدقعا، و اشتمل الحل على طريقتين مختلفتين، الاولى وهي الأفضل تتمثل في جذب القدرات من خلال تحفيزهم برواتب أحسن أو على الأقل مماثلة لما تدفعه لهم (آسكنا) وتأمينا صحيا وغبره، وهذ الحل ربما يتطلب ميزانية نضن في الوقت الراهن على الهيئة بها، وفي هذه الحالة يكون الحل الوحيد المتاح هو إدماج وضم الهيئة إلى الوكالة الوطنية للطيران المدني لتستفيد الهيئة ليس فقط من الإمكانيات المادية للوكالة بل ومن سياستها الرائدة والناجعة في اكتتاب وتكوين وتأهيل العنصر البشري.
طبعا لم أطرح هذه الأفكار على رئيس الجمهورية بصفتي منتسبا للوكالة الوطنية للطيران المدني ولا بصفتي متخصصا في الأرصاد الجوية، ولكن كشاب مثل جميع الشباب في العالم أحب وطني، أتألم لآلامه، أحلم بآماله، طرحتها من باب النصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، سيان عندي من أحب ومن كره مقالتي.
الغريب جدا أن ردود الفعل تفاوتت، فلم يعلق على الفكرة الأولى من كل من أعرفهم من خارج الورشة طبعا، إلا الذين لهم خبرة كبيرة بــ (أسنيم)، حيث رحبوا بالفكرة واعتبروا أن ثمة قدرة حقيقية لتحويلها إلى مشروع جدير بالدراسة، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار الزيادة الديموغرافية في بعض المدن الكبيرة والتي يشكل النقل فيها معضلة في الالتزام وبرمجة الوقت ومشاكل الازدحام ومواقف السيارات والحوادث والاعتداءات وغيرها...
في حين شكك بعض ردود الأفعال في أهمية الفكرة الثانية من خلال التشكيك في القدرات البشرية متناسين إمكانية استجلاب المكونين كما أوردت في المثال بكوريا وسنغافورة.
أما الفكرة الثالثة فقد لقيت استياء كبيرا من طرف بعض منتسبي الهيئة الوطنية للأرصاد الجوية، صحيح أن في طرحي غلظة، ولكن هل يستطيع الطبيب الناصح ترك العلاج الذي يسبب الألم ليقضي المرض على الجسم كله، لعلها مرارة مؤقتة تعقبها حلاوة دائمة، اللهم هذا جهدي، ثم إنني في لقاء سابق مع الرئيس تحدثنا في موضوع الهيئة والذي وجدته يشغله، فهل نطلي على الجرب، ثم إن كل المتخصصين في الأرصاد الجوية أيدوا ما قلت أو على الأقل سكتوا، لم يكن هدفي مطلقا التشهير ولكن (إن لصاحب الحق مقال).
قبل أن أختم أريد أن أقول إنه كان على منظمي اللقاء أن يخططوا للقاء تخطيطا محكما يضمن تنقية الأفكار وصقلها من خلال الورشات وتنقيطها على معايير شفافة في كل ورشة قبل الحديث مباشرة مع الرئيس، لنحقق جميعا بذلك شعار اللقاء وألا تطبعه هذه الارتجالية التي كانت السبب الرئيس في فشل قطاعات الدولة في الخمسين سنة الماضية، وعلى كل حال نرجو ألا يكون اختيار المجلس الأعلى للشباب بنفس مستوى تنقيط لجنة تنظيم اللقاء؟