إنَّ من أهم المكاسب الموروثة من أنظمة الإخفاق المتتالية هو ذلك الإجماع شبه التام بعد سقوط نظام ولد الطايع على تشخيص حالة الدولة الموريتانية باعتبارها دولة فاشلة على كافة الأصعدة، هذا التشخيص الذي استدعى من مختلف الفاعلين السياسيين البحثَ في أسبابه والتنافسَ المحموم
لإيجاد الوصفات المناسبة بغية تقديمها في برنامج انتخابي يقنع الناخب الموريتاني بالتصويت له باعتباره البرنامج الأمثلَ بين البرامج المقدمة للخروج بالدولة من حالة الفشل هذه.
لم يُتعب أغلَبُ المترشحين أنفسَهم كثيرا بالبحث عن أسباب الخلل، واكتفوا بشماعةِ تعاقبِ الأنظمة العسكرية على إدارة الدولة معلقين عليها كل أسباب الفشل، باعتبارهم ـ أي العسكر- هم مكمن الداء وأسّ البلاء، وكأن موريتانيا التي عرفناها ولدت لأول مرة في العاشر من يوليو، على أنقاض سويسرا إفريقية فَطَرتْها من هباء "السَّيبة" عبقريةٌ مدنية!.. فكان حجر الزاوية في البرامج الانتخابية لهؤلاء المترشحين على تعدّدها هو تقديم أصحابها لأنفسهم كبدائل مدنية متحضرة وديمقراطية، لأجلاف العساكر المتخلفة الديكتاتورية، وكأن هذا وحده يكفي كبرنامج انتخابي لمن خرجوا تَوّا من اتفاق دكار الذي تَخلَّوْا فيه عن رئيسهم المدني المنتخَب! أحرى ان يكون برنامجا لمن اعتبروا الإنقلاب عليه حركة تصحيحية ...في خلط واضح بين الدعاية السياسية والتحليل السياسي.
بالمقابل إعتمد البرنامج الذي حصد أغلبية الأصوات ـ لأسباب قد يرى البعض أنّها لا تعود فقط للبرنامج نفسه - على تشخيص أكثرَ عمقا لأسباب الفشل ارتكز على تحميل الطبقة السياسية التي مثلت الجهاز السياسي والبيروقراطي لمختلِف الأنظمة الموريتانية ـ مدنية كانت أم عسكرية ـ مسؤولية هذه الإخفاقات، مقدّما برنامجا للحل تجلى تنفيذه في محورين أساسيين:
تمثّل المحور الأول وهو علاجي استعجالي مباشر، في محاربة الفساد، عن طريق كفّ يد "المفسدين بالطبيعة" أولا، وباعتبار أنّ الفساد أصبحَ يشكّل نظاما قائما بذاته كان من الضروري أن يتمّ تطوير نظام لمحاربته (مؤسسات محاربة الفساد). يشمل هذا النظام في الوقت الرّاهن جهازا لتنظيم الصفقات العمومية تم تحديثُه ليصبح من أكثر أنظمة الصفقات العمومية تطورا (لجان قطاعية– لجنة مراقبة – سلطة تنظيم )، يُضافُ الى أجهزة الرقابة الموجودة أصلا (محكمة الحسابات والمفتشية العامة )، والتي و ان كانت بدورها تحتاج إلى تطوير وإصلاح، إلا انها ـ وعلى علاّتِها ـ باتت تشكل "سيف ديموكليس" المسلَّطَ على رؤوس مسيري الأموال العمومية.
وبطبيعة الحال فإن القضاء على مؤسسة الفساد، أقدمِ مؤسسّات الدولة!.. وأكثرها عمقا وتحصينا، يتطلب الكثير من الجهد والوقت، إلا أن خطواتٌ مهمة وواضحة للعيان تم قطعها في هذا الطريق، أمّا ما يتمّ الحديث عنه هنا وهناك من أن الرئيس أو ابنه أو... قد أخذ الصفقة (س) أو العمولة (ص) أو ... فهي أخبار يعوزها الدليل ويعتبر الجدل حولها نوعا من العبث و القفز على الواقع المرئي والمؤشرات الواضحة لمحاربة الفساد إلى الاشاعات والشيطنة السياسية التي تروجها صحافة صفراء، في بلاد لا تتأثر شعبية الزعيم "الاسلامي" فيها بعدم "تحرى الصدق" ولو قبل قطع الايمان!.
وكخلاصة لما سبق فلا يمكن لأيّ كان أن ينكر أنّ جهاز الدولة قد استعاد بعضا من حيائه تجاه سرقة المال العام.
أما المحور الثاني المتمثَّل في تجديد الطبقة السياسية، والذي يفترض أن يكونَ الحلّ الاستراتيجي للفشل المذكور، عن طريق دمج طبقة جديدة لم تستمرئ الفساد والإفساد بعد، مكان الطبقة المسؤولة ـ أخلاقيا على الأقل ـ عن كل ما سبق، فيبدو ـ و بعد أكثر من أربع سنوات على وصول حَمَلَة هذا المشروع إلى السلطة ـ أنّه مازال هناك من الأنصار أو من الطابور الخامس من يحتاج الى توضيح حول فلسفة هذا التجديد و الأسباب الموجبة له؛ حيث إنّ أكبرَ ضربة تلقّاها هذا المشروع هي ذلك الفهم السطحي الذي ساد بعض الأوساط الشبابية مدعومة من بعض مراكز القرار لمفهوم التجديد المنشود باعتباره مجرد تبادل للأجيال أو إحلال لطبقة شابة من السياسيين والإداريين والفنيين... لديها إحساس مرتفع بالفتوة الفيزيولوجية، محلّ طبقة رافضة للتقاعد، في تماهٍ تام مع العلاقات الاجتماعية السائدة في القطيع!
إنّ معيار الأفضلية أو الاستقامة وبطبيعة الحال الكفاءة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الشبابَ العُمري فقط؛ فالسلف ـ غير الصالح ـ في إدارة الدولة كان في مرحلة الشباب عند استلامه للدولة، ومازال من ضمنه شباب حتى هذه اللحظة، غير أن معايير الانتقاء ـ غير الطبيعي ـ (المحسوبية والزبونية بكل أنواعها) والتي تم تطبيقها آنذاك انتقت في الغالب الأعمّ من كل جيل أسوأ من فيه، وإعادةُ تطبيق معايير الانتقاء نفسِها على الجيل الجديد، لا يمكن أن تُنتج إلا أحزابا وتياراتٍ شبابيةً ليس لديها من المشاريع والأفكار إلا العبارة السحرية (نحن الشباب) تتصارع وتتكاثر كالفطر لتحتلّ المشهد، وقد نمثل على ذلك بعملية الإنتاج الزراعي التي تعتبر من الناحية الرياضية تابعا مركبا لمجموعة من المتغيرات كالتربة والمناخ وماء الريّ ونوع المحصول وموعد الزراعة والسماد و... ممّا يجعلها عملية يصعب توقّع نتائجها بشكل دقيق، غير أنّ زراعة التربة نفسِها بالمحصول البدائي نفسِه، مع استخدام الأسمدة الرديئة نفسها...، سيؤدي الى النتائج الهزيلة نفسها والتي ستزداد سوء كلما أُعيدت التجربة بفعل شيخوخة التربة وتناقص خصوبتها.
لقد كانَ لقاءُ الشباب والرئيس اعترافا ضمنيا بفشل تجربة هذه التنظيمات "الشبابية"، ومؤشرا واضحا على السعي الحثيث من أجل إيجاد آلية جديدة وفعّالة للاستفادة من طاقات الشباب في عملية التجديد المنشود للطبقة السياسية، وقد كان التعاطي السلبي المتجاهل للقاء من قِبَلِ هذه الأحزاب "الشبابية" مؤشرا واضحا على أنّ رسالة الرئيس وصلتهم، ودليلا دامغا على تخلّفٍ في رَدّة الفعل، يُضافُ إلى ضعف المبادرة والإبداع.
ومع أن معايير اختيار اللجنة المشرفة، وطريقة اختيار المشاركين، وتنظيم الورشات والوقت المخصص لها... تثير كثيرا من علامات الإستفهام (مَنْ لَدَغَه الثعبانُ خافَ من الحبل) ، إلا أن اللقاء كان خطوة مهمة، وحدثا قد يكون مفصليا في طريق النهوض اذا ما تم تنفيذ نتائجه بطريقة صحيحة تُحدثُ قطيعةً مع المحسوبية والإرتجال، لتؤسس لطريقة انتقاء طبيعي قائمة على معايير الكفاءة والتخطيط.
إنّها فرصةٌ، قد تكون الأخيرَةَ، للطرف المهزوم و المأزوم، المستبعَد دائما من إدارة الشؤون المشتركة، لأخذ زمام المبادرة والدفاع عن مصالح الأغلبية المغيّبة، أو هي فرصة أخرى للأقلية المستأثرة بالسلطة دائما! بفعل قدرتها على إقناع كل حاكم أنّ حُكْمَ البلاد لا يمكن إلا من خلالها، والواقع أنَّها هي التي حكمت البلاد والعباد من خلال كل حاكم، لتخرَج في أوّل مسيرة بعد الرحيل مرحّبة بالحاكم الجديد، فرصة لتقول ـ بابتسامة صفراء- للرئيس الحالي : "لا حياة لمن تنادي"، لا مناص من المصالحة مع الدولة العميقة إلى أنْ ينتهي الرّصيد.
والسياسة كما قال بسمارك هي فنُّ الممكن، والسلطان في النهاية عقيم كما قالت العرب.