عجيب غريب أمر هذا الإنسان، الذي مهما تصاغر حجمه، وهزل جسمه! فهو قادر بعقله أن يقهر أعتى الصعاب، ولأنه كما قال هوبز ذئب لأخيه الإنسان، فهو شغوف باستعمال الحيلة والمكر بداعي حب التسلط حينما يتهيأ له الصراع في فضاء مفتوح ليس له من رقيب سوى عنف فيزيائي.
ولكن أليست حيلة الشناقطة كانت أقوى من عنفهم، لأنها استعملت أقوى الأدلة (الدين) لاستعباد الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحرار، ولكن كل الروايات التاريخية قد تواترت على أنما حدث من الاسترقاق كان نوع من القهر ببعديه المادي والمعنوي، فقد استهلوه بطمس الهوية، إذ أن هذه الشريحة المسماة "شريحة العبيد" اقتلعت من جذورها الزنجية، بفصلها عن ماضيها، ولم يبق لها من خيار سوى أن تندمج بشكل اضطراري في عالمها الجديد، وهو الواقع الذي فرض عليها التكلم بلغة غير لغتها الأصلية، والتخلق بعادات، وتقاليد، والانتماء إلى قبائل وأفخاظ لم يكن لها من خيار آخر، والانضمام إلى حروب طاحنة وقعت في هذا البلد بين الإمارات والقبائل الموريتانية، كانت بسالة وشجاعة هؤلاء "العبيد" فيها ملفتة للانتباه، خاصة (حرب شرببه، ومغامرات أولاد امبارك)، لكن صفحات تاريخ الأسياد لم تكن لترضى أن تتدنس بتدوينات عبيد لا يحق لهم سوى (الصر والحلب)، وإن مسكوا البندقية فلأن مشيئة الأسياد شاءت ذلك، إذ أن جنة العبد تحت قدم سيده!
لقد كان افلاطون شاطرا، حينما أراد أن يقسم المجتمع اليوناني تقسيما طبقيا قال: "سأكذب عليهم كذبة، فأقول لهم أن الآلهة قسمت المجتمع إلى ثلاث طبقات: طبقة السادة وهي من معدن الذهب، طبقة الجنود وهي من معدن الفضة، طبقة العبيد وهي من معدن النحاس وهو أرخص المعادن". ويقول حيال ذلك كذبت عليهم هذه الكذبة حتى ترضى كل فئة بقدرها.
ولما أراد أسيادنا أن يسقونا من كأس العبودية الحنظلي استخدموا قوة الإسلام وحجته وروحانيته فقسموا العبيد إلى فئتين:
فئة تطيع أسيادها؛ لأنها مؤمنة بأن الله خلقها لهذه المهمة، ذلك أن طاعة العبد لسيده هي طاعة لله (جنة العبد تحت قدم سيده)، وسيحشر مع الصديقين والصالحين.
الفئة الثانية: وهم العابقون الأشقياء الذين يعصون أسيادهم، وسينالون نوعين من العذاب عذاب معجل وعذاب مؤجل، أما المعجل فهو الذي يوقعونه عليهم أسيادهم، وفي الغالب يكون بني جلدتهم من العبيد أنفسهم هم أدوات تنفيذ العقوبة، أما المؤجل فهو عذاب الآخرة (نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) الآية.. ففي ليلة واحدة عندما يعصي العبد سيده يبيت يائسا من رحمة الله.
ولكي يبقى التقسيم قابل بأن يسوق فكريا، فلابد من تقسيم طبقي مقنع لهذه الشريحة، فقد قسموها إلى ثلاث أصناف: (1. الخظارة، 2. الحراطين، 3. العبيد).
أما الخظارة: فهي الفئة التي لم تذق مرارة الاسترقاق على الأقل المباشر منه وإن كان وقع عليها استرقاق فعادة ما يكون متقادم، فهم في الغالب يملكون العبيد، وهو الأمر الذي أشاع طرفة المفهوم "عبيد العبيد"، ويحاول البيظان إعطاء هالة من السيادة لهؤلاء، حتى يخلقوا ثقافة الاستعباد كممارسة مألوفة ومقبولة حينما يقسموا هذا التقسيم التفضيلي لهذه الشريحة.
أما الحراطين: فهم الحديثوا عهد بالحرية (حر طاري) الذين تم عتقهم ليرتقوا من منزلة العبيد إلى منزلة الأحرار بين قوسين.
أما العبيد: فهم الأدنى درجة، وهذه الفئة مملوكة من قبل كل الشرائح الموريتانية.
ولد هذا الإرهاب الفكري لدى قطاع واسع من هذه الشريحة نوع من استيعاب هذه الممارسة، وهو الأمر الذي أدى بها إلى أن تقف بعنفوانية ضد المناضلين ضد العبودية، حيث لاقوا منهم من الإساءة والجحود لم يلاقوه من البيظان أنفسهم، إذ وصل هذا الجحود أحيانا أن ضحية الاستعباد نفسها أحيانا تتهم من يريد تحريرها بالحاسد، بل يريد أن يحرمها من نعمة السيد الذي يجود عليها من نعيمه الذي لا ينضب.
وقد ساهم في تكريس هذه الممارسة القيام ببعض المسلكيات كـ(التجهيل) والسحر وحتى أحيانا تعطيل بعض حواس العبيد حتى تحد من قدرتهم الجسدية على الرفض.
وقد لعبت الأنظمة المتعاقبة دورا بارزا في تكريس هذه الثقافة التي ساهمت في تخدير هؤلاء بأساليب أكثر خطورة حتى استطاعت أن تخلق قطاع واسع من مثقفي وأطر وعاميي هذه الشريحة في الداخل والخارج ينكرون العبودية ويصبون اللعنات على المناضلين الأوفياء الذين لم يبخلوا في الكفاح ضد ممارسة الاسترقاق، مقابل أثمان ومناصب ساهمت في إطالة أمر هذه الممارسة.
أردت أن أتقدم بهذا الإسهام المتواضع، ليس نكئا لجراح لما تندمل بعد، بل أردت أن أتوجه بنداء واضح المعالم إلى كل من مارس هذه الممارسة البشعة أن يتوب لله وأن يكفر عما اقترفت يداه، وأرهب لسانه، أن يساهم في النهوض بهذه الشريحة التي تسبب في تخلفها، حتى لا تلاحقه لعنات الظلم والقهر (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما...) الحديث القدسي.
فالحديث عن هذا الموضوع ذو شجون، ولا يسعنا إلا أن نتحدث عنه، ذلك أن لا إرادة الدولة ولا إرادة الجلاد مستعدة أن تحسن من واقع قوم لا أرض لهم سوى هذه الأرض، ولا ماضي لهم سوى الرق، ولا أبى لهم سوى المعاناة، ولا أم لهم سوى قيود العبودية.