لو سألتَ من له أدنى إلمام بعلم البلاغة عن تجاهل العارف لهش وبش واهتز طربا وقال: سوق المعلوم مساق المجهول! ولربما أنشدك قول ليلى بنت طريف في رثاء أخيها:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ** كأنك لم تحزن على ابن طريف؟!
بيد أنك لو سألت أكثر الناس تبحرا في علوم اللغة العربية عن تعارف الجاهل (تظاهره بالمعرفة) لتنحنح وسعل، أو لصمت صمت القبور ولم يُحِرْ جوابا، أو لأجابك – في أحسن الأحوال- بأنه لا يوجد.
أما أنا فمن نعم الله - التي لا تحصى علي- أن مَنَّ علي باكتشاف هذا العلم العظيم الذي يتعايش الكل معه ﴿وهم لا يشعرون﴾ ورزقنيه من حيث لا أحتسب. وسأروي قصة ذلك بذلا للعلم وخدمة للراغبين فيه:
ذات مرة كنت أريد التوجه من عرفات إلى قلب المدينة، ولم يكن لدي فرق بين خط العيادة المجمعة (اكلينيك) وخط السوق الكبير، وبما أن عرف الناقلين خصص "كبتال" بالسوق فقط (بعد ما عهدناه عَلَمًا على مساحة شاسعة تمتد من المطافئ إلى مسجد المغرب) فقد عدلت عن هذا اللفظ إلى مرادفه العربي تجنبا لخوطئ الأفهام وما تجر إليه من تصامم الناقلين وتجاهلهم ونبذي بالعراء بين سحب الغبار والدخان.
أوقفت سيارة أجرة وقلت لسائقها: العاصمة؟
قال: وما العاصمة؟
قلت: السوق أو العيادة المجمعة.
قال: اركب.
ركبت في الطرف الأيمن من المقعد الخلفي رابع أربعة، وما إن أغلقت الباب حتى بدأ السائق يجود علي وعلى غالبية الموريتانيين بما جادت به قريحته من شتم وسباب ويؤنبني على قصور تعبيري فانواكشوط كلها عاصمة ولا معنى لهذا اللفظ في رأيه، وآزرته من يبدو أنها زوجه أو أخته، وكانت تجلس تلقاء وجهي بجواره على المقعد الأمامي ثم قامت بفرض الكفاية، فتفرغ لعمله في أغلب باقي الطريق.
كان واضحا أن الأمر ليس شخصيا، وإنما يتعلق بعقدة من التاريخ وخصومة مع الموتى، وأنا حي أعيش في الحاضر ولم يسبق لي التشرف بلقائهما مجتمعين ولا مفترقين. لذا أخرجت من حقيبتي شيئا أقرؤه وكان صمتي أشد إغضابا للسيدة مما لو تكلمت!
وتواصل سير السيارة على أنغام المرأة حتى إذا انعطفت يسارا باتجاه بغداد حاول شاب يجلس إلى جانبي التنبيه إلى أني لم أرتكب جرما كبيرا، فنشدته الله أن يصمت وقلت له إن المهم لدي تحديد وجهتي ولا عبرة باسمها إذا عرف موقعها؛ فليكن اسمها لديَّ المريخ ولدى آخرين كوسوفو! وأنشدته:
ومن البلية عذل من لا يرعوي ** عن غيه وخطاب من لا يفهم
فالتفتت إلى المرأة وعيناها في عيني بثقة وتحدٍّ وقالت: "صدق الله العظيم. ذاك گالُ مولانا بعد، يغير ماهُ اعلَ ذيك الحالة" انصرف ذهني إلى التعجب من حظ المتنبي في تجاوز طوره الحقيقي! فقديما "تنبأ عجبا بالقريض" وها هي ذي أمِّيَّة موريتانية تؤلهه بعد 1081 سنة من وفاته! ثم لاحظت أن هذا بالضبط ما ينبغي أن يكون مقلوب تجاهل العارف واستمر تفكيري في ذلك من بغداد إلى العيادة المجمعة مرورا بدار الشباب الجديدة. وحين وصلنا إلى العيادة المجمعة لم يكن في السيارة غيري وغير المرأة التي كان صخبها متواصلا.
قلت للسائق: هل بإمكانك أن تتوقف هنا؟
قال بغضب وازدراء: وماذا اصنع بك؟ أوَتُراني أريد بقاءك في سيارتي؟
قلت: الموضوع لا يتعلق بي أنا، وإنما يتعلق بالسؤال عما إذا كان التوقف هنا يزعجك.
قال: قل لي: توقف.
وقالت المرأة: قل لنا أن نتوقف لك.
قلت مخاطبا الرجل: أخشى أن تفهم من ذلك غير ما أريد!
توقف أمام العيادة المجمعة وهو في غاية الانفعال، وكانت المرأة تسكب زيتها على ناره.. وحين مددت يدي إليه بحقه خطف الورقة النقدية مني بعنف كاد يمزقها.
نزلت هناك وسرت على مهلي ومررت بشركة الكتب الإسلامية ولبث مع أصدقائي بها قليلا، ثم ودعتهم وخرجت إلى شارع جمال عبد الناصر للركوب إلى تيارت، وحين مررت بالشباب الذين ينتشرون هناك بحثا عن صرف العملات (حَلاَّبة السماء) رأوا حقيبتي التي لم تفارقني في حلي وترحالي منذ ربع قرن فحسبوا سرابي ماء وقال أحدهم: "أستاذ.. انتوم اتصرف ش؟"
قلت: نعم،
قال باهتمام: "شنهُ؟"
قلت: الثلاثي المعتل.
فانصرف محبطا وقال: "ذاك ياسر فيه التزوير".
واصلت سيري إلى حيث أريد وأنا أعجب كيف ساق الله لي هذين المثالين – أو ساقني إليهما- في أقل من ساعة!
أليس هذا بربكم تعارف الجاهل؟!!