في الوقت الذي تتحدث الأطراف عن رغبتها في الدخول في حوار من أجل تحقيق توافق بشأن الانتخابات الرئاسية بوجه خاص، والأزمة السياسية بشكل عام، لا يبدو أن الرأي العام الموريتاني يعلق الكثير من الأمل على هذا الحوار.
لأن فارق الوقت والموعد الانتخابي الرئاسي المرتقب ضئيل جدا،
ولا يكفي لتحقيق جو تنافسي إيجابي شفاف، كما أغلب المراقبين يعتبرون أن هذا الحوار مجرد فرصة لتمرير نجاح ولد عبد العزيز، تعززه مشاركة بعض الأطراف المعارضة الراديكالية، وهو ما يعني دعم المعارضة ضمنيا لمخطط عزيز في الاقتراع الرئاسي المنتظر.
إن كل الموريتانيين بطبيعتهم المتسامحة، يسعون لانفراجة حقيقية في واقعهم السياسي المتأزم منذ وقت غير قصير، تشرك الجميع معارضين ومؤيدين في تسيير شأنهم العام-بصورة تشاركية ودية- لا تكرس الإقصاء والحرمان وتجسد جو الاحترام المتبادل والتعايش السلمي، وهذه بعض الآمال المعلقة على الحوار الجاري، عسى أن لا يستمر التصعيد، المفضي -لا قدر الله - للمجهول من الخصام والصدود العقيم.
إن أقصى ما تريده المعارضة أو أهمه إبعاد الطابع العسكري عن مرشحي الرئاسة، بل والطابع العسكري عن تسيير الأمر العمومي، وإقامة دولة العدل والديمقراطية والمساواة، والنظام العسكري وأنصاره لهم شعاراتهم وتزكيتهم للواقع القائم وهذا يصعب تقريبه، لكن طبيعة النظام الدولي وشروط الممولين وضرورة الاستقرار السياسي الداخلي تستدعي الحوار والتوافق ولو نسبيا، وهذا ما يدعو عقلاء الطرفين للجنوح للتفاوض والحوار المستمر، فهل يا ترى هذا الحوار جدي، أم هو على الأرجح مجرد قنطرة للعبور لحملة رئاسية مقبولة لدى الطرفين، وقد تخدم على الأكثر الأطراف الداخلة في الحوار بصورة مؤقتة، وليس أهداف الشعب الموريتاني في التنمية الحقيقية والأداء السياسي الرفيع المنقذ من براثين التخلف والاستبداد والأحادية.
ورغم أهمية اللقاءات السياسية التحاورية، مهما كانت هزيلة، إلا أن المعارضة مسؤولة عن طموحات هذا الشعب المشروعة وينبغي أن تحرص على تحقيق مستوى مقبول رغم صعوبة ذلك.
وسيظل الباطل مهما بدا مهيمنا آيلا للسقوط والذبول في وقت غير بعيد، مما سيفسح المجال للحق، للنماء والرسوخ والتمدد.
إن حرمان المعارضين من أبسط الحقوق، مثل الولوج لوظيفة أو مجرد الحصول على قطعة أرضية، وحق المشاركة في تسيير شؤون وطنهم، ظلم كبير وخطير، ولا يمكن الصبر عليه، وإذا كان الحوار سيساعد في حلحلة الأزمة السياسية الخانقة، ويفتح المجال للجميع، ليكونوا شركاء في تدبير المسألة العمومية، فمرحبا به في انتظار المزيد.
لأن تغلب مرشح معين، مع تكريس خمس سنوات قادمة من حصار المخالفين في الرأي، جو قد يؤدي إلى انفجار إجتماعي حتمي، منذر بالتفكك.
أوضاع مزرية في كل جانب من هذا الوطن، تفرض فعلا قبول الحوار، عسى أن يكون بداية تفهم لضرورة التعايش بين مختلف الآراء والتصورات، ولئلا يكون هذا الاختلاف الطبيعي بين البشر مصدر ظلم أو توتر، فهل تتفهم الأطراف المعنية بهذا الحوار، مهما كان ناقصا أو هزيلا، هذه الضرورة الوطنية الواضحة؟.
أم تظل الأنانية والمنافع الخاصة والنظرات الضيقة هي الموجه الأول والأخير فحسب؟.
وحسب مؤشرات المسرح السياسي القائم، لا توجد بواعث جدية لدى النظام للانخراط في حوار جدي دائم، فما يخوض فيه الآن من إبداء الرغبة في الحوار، بسبب الضغط الخارجي الفرنسي أساسا، ولحاجته لمشاركة المعارضة الراديكالية، لتخفيف وطأة الأزمة السياسية المتواصلة، وقد يكون هذا ما يدفع للاعتقاد أن الحوار في المحصلة، سيكون هزيلا فعلا، لكن الرغبة في التغيير نحو الأفضل، تدعو كثيرين للتفاؤل، ودفع الأمور نحو فرص الإنفراج، وقد يعمل الكثير من الوطنيين على تعزيزها تدريجيا.
فالواقع الموريتاني لا يسمح بالعنف أو الرغبة في أي تغيير عن طريق مسالكه، لأن التنوع العرقي والطبقي، جو جاهز شديد الحساسية، ولا يمكن تجاهله وتجاهل طبيعته المساعدة على الخلاف والحراب الأهلي، مما يدعو بشكل مستمر للتحفظ من التصعيد والعناد، فلابد من البحث عن مخارج سلمية لمختلف التحديات المطروحة.
إن دعوة الفرقاء للتفاهم والتوصل إلى خطة جامعة، لتفضي إلى خلاص –ولو نسبي-، دعوة لا يمكن تجاهلها.
فالوضعية الراهنة في وجه الانتخابات الرئاسية لا تسمح إلا بالتهدئة والحوار، مهما كانت نتائجه، في انتظار فرصة سانحة للضغط السلمي، إن استمر فشل النظام القائم وعجزه عن الخروج من عنق الزجاجة.
إن نخبنا المؤيدة والمعارضة على السواء بحاجة إلى إدراك، أن موريتانيا لا يصلح لها ما يصلح لمصر أو سوريا أو ليبيا، فالموريتانيون في أغلبهم يعلمون من منطلق شرعي، أن بعض الاستقرار ولو مع بعض التأزم السياسي خير من حرب أهلية مفتوحة، لا يدري متى ولا كيف تتوقف.
وفي المقابل تعرف أنظمة موريتانيا المتعاقبة، أن ضغوط المناوئين وضغوط الأزمات المتنوعة نفسها كافية لإسقاط هذه الأنظمة، إذا لم تبادر للإصلاح.
وبالتالي لا داعي البتة، لانسياق المعارضات لغير سبيل التغيير والضغط السلمي، وليعلم النظام أنه لا فكاك من حوار جاد، وإلا فإن مآله إلى الزوال تلقائيا.
إن الحوار الراهن المأمول متعثر حتى الآن، وحتى لو بدأ فالأمل فيه ضعيف، ولكن ذلك لا يمنع من التذكير بضرورة حوار جاد، ومن المرجح أن النظام الاستبدادي العنيد القائم غير راغب في الحوار، لكنه من أفضل السبل لجميع الأطراف.
إن الحوار بحاجة إلى سلوك حواري وثقافة وتربية حوارية، وإلا فلن يكون بالمرة حوارا جادا ناجعا.
وما هو مطلوب من مراجعات لا يكفي الوقت لتحقيقه، مع قرب الآجال الدستورية للانتخابات الرئاسية، ومع إصرار وزير الإعلام في خطابه الافتتاحي للجلسة الأولى المتعثرة على نفس تلك المواعيد.
وإبقاء "امربيه" على رأس وكالة الوثائق المؤمنة، لا يدل على الرغبة في تحسين وضعية اللائحة الانتخابية.
وعلى العموم لا توجد دلائل مبشرة بحوار مفيد، ورغم ذلك فالجميع مدعو لتفهم الحالة العامة المتأزمة وتقديم التنازلات الملموسة من أجل تغيير سريع سلمي نحو الأحسن، فاللاعبون المسالمون المؤثرون في المسرح السياسي المحلي ليسوا وحدهم، فهناك دعاة عنف ولو قلوا، ومنهم أطراف خارجية يخدمها زعزعة الوضع في موريتانيا.
إن أمل الكثيرين في هذا الحوار ضعيف، وإذا لم يتطور مستوى الخطاب السياسي خصوصا عند السلطة القائمة المتغلبة، فقد لا يلد الجبل إلا فأرا، كما يقال في المثل العربي الشهير، وهذا ما اعتقده، بأن هذا الحوار الحالي لن يقدم إن لم يؤخر، لكن هذا لا يمنع من التذكير بإلحاح، بضرورة الحوار، كمخرج سلمي، من أخطر الأزمات عبر التاريخ.
ولم تكن الحوارات الحاسمة عبر التاريخ المديد، بدون تنازلات من كلا الطرفين المتحاورين، فليكن في علم المعارضة، أن كسب بعض النقاط المهمة لصالح العملية السياسية الموريتانية، لن يتم إلا ببعض التنازل، وتلك بعض لوازم الحوار وطبيعته المؤلمة أحيانا، فهل يقبل الطرفان التحاور بروح واقعية بناءة فعلا؟!.
ولابد من القول بصراحة أن النظام الحالي، انتهز فرصة رفع المعارضة الراديكالية لسقف مطالبها فحرم كل سياسي أو إعلامي أو كاتب أو حتى مواطن عادي محسوب عليها، من كل امتيازات المخزن الكثيرة، ولقد مثلت ثروة الدولة القوة المالية الضاربة، خصوصا في الفترات الأخيرة من ضعف القطاع الخاص واستهداف أقوى شركاته، وخصوصا تلك المرتبطة بأقارب الرئيس السابق معاوية ولد سيدي احمد ولد الطايع.
فلم يعد من منبع أساسي لعيش الناس إلا القطاع العام، وهذا القطاع يبعد بصورة صريحة، كل معارض أو متحفظ من التصفيق، ومن مصلحة الوطن توافق الأطراف السياسية على تجاوز هذا الحصار، وتجسيد ذلك في صيغ واضحة، تشرك كل المواطنين والكفاءات دون تمييز سياسي أو جهوي أو عرقي.
إن الحاجة للحوار في كل ميدان، وتفهم الحاجة إليه مستوى من النجاح والرقي المدني والسياسي.
لقد ظلت الحكومة وأنصارها تروج لرفض المعارضة الراديكالية للحوار، وعدم الاستعداد له بصورة جدية، وأن المعارضة بالتابعين لها في الإعلام تكرس لجو طارد للحوار، ولكن الإعلام اليوم في أغلبه راغب في الحوار، ولو بقطع شوط نحو مخرج حواري سلمي، فهل يعي الداخلون في اللعبة الخطيرة الحساسة أهمية اقتناص هذه الفرصة قبل تبدل الطقس؟.
إن الحكم بطرف واحد يعود –بضم الياء- على مسار تصفية الحسابات، حتى إذا حكمت جهة أخرى أقصت –أو ربما عاقبت الطرف المنهزم- وهذا توجه غير حضاري وغير لائق، فالحوار رغم الطابع الانقلابي العسكري للنظام القائم ورغم الأزمات المعروفة والتحديات البينة ضرورة قصوى، من أجل عدم غرق سفينة الوطن، فنحن ركابها رغم إختلافنا، وما أفلح قوم دون رشاد وتفاهم، وإلا كانت العواصف الناجمة عن التأزم المتزايد كفيلة بتصحيح الأوضاع الفاسدة، مع خسائر أكبر، قد يدفعها الجميع.