6إبريل 1979، ذلك الأمل الذي اغتيل، فتهنا أربعين سنة! / محمدٌ ولد إشدو

قليلون هم الذين يتذكرون هذا اليوم التاريخي، أو يعلمون أنه كان يمثل أملا وطنيا في وضع نهاية مبكرة للانهيار الذي دشنه انقلاب العاشر 10 يوليو على كافة الصعد:
- السياسي: انهيار شرعية وسلطة وهيبة الدولة داخليا وخارجيا.

- العسكري: انهيار الجبهة، وتصدع وحدة الجيش، وانشغاله بالسلطة والمال، وسيطرة اللوبي المدني المنقلب على مقاليده.

- الديمقراطي: قيام نظام عسكري استثنائي.
- الاقتصادي: نهب المال العام والثروات الطبيعية.. الخ.
فلقد كان 6 إبريل انتفاضة عسكرية قادها الضباط الوطنيون الأساسيون في الجيش؛ والذين لم يشتركوا أصلا في انقلاب العاشر يوليو. والذين كان تعيينهم في اللجنة العسكرية للانقلاب -أو في حكومتها- إما لمكانتهم العسكرية والاجتماعية، أو لانتماءاتهم الجهوية. وكان محركا تلك الانتفاضة هما العقيدان أحمد ولد بوسيف ومحمد ولد ابَّ ولد عبد القادر رحمهما الله.
كيف تعرفت على الرجلين؟
لقد شاءت ظروف منفاي "الوظيفي" في عاصمة الحوض الشرقي سنة 1970 أن أنتمي لشلة من الشباب الوطني كان من بين أعضائها السادة: خليهن ولد ان رحمه الله والننه ولد ببكر والشَّيْرِفْ ولد اب ولد ان واگيگ ولد مولاي ادريس ومولاي أحمد ولد حسني. وكان يرتاد هذا الوسط النعماوي الطيب ضابط طيار شاب أسمر اللون بسيط وودود، تربطه به أواصر الطفولة والزمالة والجهة، فيأوي إليه في فترات راحته القصيرة، يدعى محمد ولد اب ولد عبد القادر.
وفي غمرة أحداث ما بعد العاشر يوليو، انفرط عقد "الثوار" بسرعة فائقة بسبب انعدام رؤية مشتركة للغد، فصفى اليمين المسيطر "رفاق" دربه الواهمين.  ومع ذلك، لم ينجح قائد الانقلاب في فرض نفوذه كقائد للانقلاب ورئيس للدولة على أصحابه؛ ناهيك عن القوى السياسية والاجتماعية الأخرى المنفلتة من عقالها. وجاء انهيار محاولة إقامة مجلس استشاري يمثل مختلف أنحاء البلاد ويدعم السلطة الجديدة ليكرس عزلة الانقلابيين ويفاقم أزمة البلاد. وفي تلك الأثناء التقيت صدفة بذلك الضابط الطيار النعماوي الذي أصبح عقيدا مشهورا، فأعدت الصلة به من جديد وبدأت أتردد على منزله الكائن في حي الموظفين شمال شارع جمال عبد الناصر إن لم تخني الذاكرة.
وسرعان ما توطدت علاقاتنا ونشأت بيننا ألفة وصداقة ما زلت أعتز بها إلى يومنا هذا.
وذات يوم، توجهت إلى منزل صديقي العقيد زوالا، وكان الوضع السياسي يزداد تعقدا وتوترا يوما بعد يوم، فلم أجده هناك. وعلمت يومها أنه قد تم تعيينه قائدا لقوات خاصة تتولى أمن رئيس اللجنة العسكرية، ولها أركانها المستقلة عن الأركان العامة. دلفت إلى قاعة الانتظار. كانت بسيطة ومرتبة ونظيفة؛ بسيطة لأن الناس كانوا يومئذ بسطاء، ونظيفة ومرتبة بفضل ما تتميز به سيدة المنزل من حس مدني وذوق رفيع.
.. وفجأة وجدتني أمام رجل خمسيني أو يزيد، أبيض اللون، فارع القامة، صبيح الوجه، أمير وطني، يرتدي بذلة مدنية فاتحة اللون. وقد فاجأني ما يتصف به هذا الرجل الغريب علي من صراحة وانفتاح واتقاد فكر ووضوح رؤية وبعد نظر. تجاذبنا أطراف الحديث بسرعة، دون تكلف، وكأننا صديقان منذ أمد بعيد.
كان حديث الناس يومئذ يدور حول السياسة وطرق الخروج من الأزمة، وحول المستقبل. حدثته عن بعض أفكاري المشوشة عن ضرورة السلام الشامل، وعدم الانسحاب من الصحراء ما لم يتحقق ذلك السلام، وعن... فقاطعني قائلا: كيف يمكن تحقيق ما تتحدث عنه من فراغ؟ إن النقطة المركزية والمنطلق لأي تصحيح جدي تبدأ بالاستيلاء على السلطة.
فبدون ذلك يكون كل حديث هراء. أسرتني بساطة وصراحة وصرامة ووضوح رؤية الرجل الغريب، وأنا "الثوري" الذي كان يعتد بآرائه وقدراته البلاغية! وفي أقل من نصف ساعة غادرنا المنزل قبل عودة صاحبه، فاتجه هو إلى مكاتب الوزارات سيرا على الأقدام. وذهبت أنا في سبيلي. لكن بعد ما علمت أن محدثي عقيد في الجيش ووزير للصيد في حكومة الانقلاب، واسمه أحمد ولد بسيف! ولم أعد أتذكر ما إن كنا قد التقينا بعد ذلك عند دار محمد ولد عبد القادر قبل الـ6 من إبريل أم لا؛ بيد أني متأكد من أننا لم نتجاذب أطراف الحديث في السياسة بعد لقائنا الأول. لقد سمع الرجل جُلَّ آرائي بانتباه، وقال ما يريد بوضوح؛ لحد أن كلماته ما تزال ترن في مسمعي.
انقلاب السادس 6 إبريل: الأمل، واغتيال الأمل
وفي ضحى يوم من الأسبوع الذي أعقب ذلك اللقاء، نزلت الدبابات والسيارات الصفراء المسلحة ذات الدفع الرباعي إلى شوارع نواكشوط تتخذ مواقعها في الأماكن الحساسة. وقبل أن ينجلي الأمر، خرجت أتعقب الأخبار. وما أن حاذيت دار الشباب (القديمة) التي أسكن في الحي المجاور لها حتى مرت أمامي سيارة قيادة تابعة للدرك تقل العقيدين محمد ولد عبد القادر والشيخ ولد بيده قائد الدرك يومها (رحمهما الله). كان العقيد الشيخ يتولى قيادة السيارة والعقيد محمد ولد عبد القادر يعطي الأوامر لبعض القوات المرابطة. رآني، فتبسم ضاحكا وأشار إلي بالتحية، فرددتها بأحسن منها، وقد فهمت طبيعة الحدث الذي لم يكن لي به علم.
نجح الانقلاب. وأعيدت ترتيبات المشهد السياسي بموجب ميثاق دستوري جديد، جرد رئيس انقلاب العاشر يوليو -رئيس الدولة- من معظم صلاحياته، فبقي وجوده مظهريا ومؤقتا، وقلدها رئيس الوزراء أحمد ولد بسيف. وبدأت خطوات التصحيح تتوالى.. ولكن الحكام الجدد وقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه الرائد جدو ولد السالك وصحبه قبلهم. لقد انقلبوا بنجاح، وسطروا ما شاؤوا من صلاحيات وسلطة على الورق، وأخذوا مقاليد السياسة والدولة، وتركوا زمام الجيش بيد خصومهم الموالين لتحالف اللوبي المدني اليميني وجبهة بوليزاريو؛ ذلك التحالف الذي دبر انقلاب العاشر يوليو، فأطاحوا بهم!
تضاف إلى ذلك الخطأ الأساسي ثلاثة عوامل ساهمت في اغتيال الحدث:
* أن الحركة وإن كانت قد طلبت من أنصارها تزويدها بآرائهم في طرق الخروج من الأزمة، إلا أنها عزلت نفسها عنهم، وعجزت عن أن تحشد من قوى المجتمع المؤيد لها ما تحمي به نفسها من العدو، فواجهت عدوها منفردة، ومكشوفة أيضا.
* أنها وهي معزولة في الجيش وفي الشعب، لم توارب أو تناور؛ بل جاهرت صراحة بما تريد وما تهدف إليه. وكانت تصريحات رئيس الوزراء أمام قصر الأليزى باستحالة الانسحاب من الصحراء إلا في إطار صلح شامل، مثالا صارخا على ذلك.
* لم تستطع الحركة، بسبب احتدام الوضع السياسي، أن تلتفت إلى الاقتصاد أو توقف انتهاك المال العام والشيء العمومي الذي دشنه العاشر من يوليو. بل إن المحسوبين على المرحوم بوسيف دخلوا حلبة السباق مع محسوبي المصطفى واللوبي المدني الذي أتى به، ومحسوبي بوليزاريو، فزاد الطين بلة.
* وانتهزت قوى العاشر من يوليو -التي كانت تحتضر- فرصة هذه الاختلالات فشنت هجوما مضادا على جبهتين:
ـ في الخارج؛ كثفت بوليزاريو تهديداتها ومناوراتها ومناوشاتها في الصحراء بغرض الضغط على سلطة الـ6 إبريل وابتزازها.
ـ في الداخل؛ نظمت تلك القوى اضطرابات وأعمال شغب ذات طابع عنصري وثقافي سقط فيها أحد الطلاب شهيدا على يد زملائه، وكان من أبناء مدينة تجكجة. وقد أسفرت تلك الاضطرابات -بالإضافة إلى الفوضى التي مهدت للإطاحة بسلطة 6 إبريل- عن "إصلاح" الفصل العنصري الذي كرس تربية أجيال منفصلة على مدى ثلاثين سنة.
وفي عصر أحد الأيام، زرت منزل العقيد محمد ولد عبد القادر، فاتجهت –كعادتي- إلى قاعة الاستقبال متجاوزا الخيمة المنصوبة في بهو الدار، فما راعني إلا أحمد متكئا واضعا كم دراعته "الشگه" الرثة على وجهه مسترسلا في تفكير عميق، وكأنه يعيد مشهد الزعيم سعد زغلول وهو يقول لزوجته وقد أدركه الموت: "ما فيش فايده غطيني يا صفية"! كانت السيدة راضية تعد الشاي وكان محمد جالسا، بينما الفنان الكوميدي محمد الشيخ ولد الراظي يقوم ببعض عروضه المسرحية!
.. وغادرت انواكشوط مضطرا إلى داكار لعلاج أحد أفراد العائلة. وفي ضحى ذلك اليوم المشؤوم (27 مايو 1979) تلقيت النبأ الصاعق من التجار الموريتانيين المتجمهرين يرجون أوبة طائرة زعيمهم المفقودة، ويتعللون بأي بارقة أمل. كان اليوم عاصفا نسبيا، وإن لم يكن لدرجة يفقد معها طيار قائد محنك السيطرة على طائرة يعرفها كما يعرف أبناءه! هل كانت الصدفة وحدها ما جعل الرياح تجري بما تشتهي سفن أعداء موريتانيا، فتتيه هذه الأرض الطيبة وشعبها أربعين سنة؟ ذلك ما قاله الحاكمون الجدد وبعض أفراد العائلة المصابة. أما أنا فما زلت مقتنعا، دون أن أمتلك دليلا على ذلك سوى ما في اختفاء الرجل من مصلحة لخصومه وخصوم بلاده، بأنه كان هو وصحبه ضحايا عملية اغتيال مدبرة بإحكام منقطع النظير، وبأيد أجنبية.

لقد كان التمثل بقول أبي ماضي في رثاء الملك فيصل بن الحسين واردا:
نبكي علينا لا عليك فإنما      ماتت بموت المنقذ الأحلام.
بيد أني رثيت الأمير الفارس بقصيدة تاهت هي الأخرى، كما تهت وتاهت البلاد، من أبياتها:
سئمت الأرض إذ ملئت غباء      وكفرانا فعانقت السماء
رحلت إلى العلا شهما نظيفـا       تروم لنا الكرامة والبقاء
ورمت السلم في شرف وعـز      ولم تركع لتطلبها غبـاء

رسالتك التي هبطـت علينــا        أبا سيف ستمنحنا العزاء
ونمشيها خطى كتبـت علينـا        وننتزع الكرامة والإباء.

7. أبريل 2014 - 16:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا