جريمة الشامي / الشيخ أحمد ولد البان

مضت سنون ثلاث على إنشاء مقاطعتي انبيكت لحواش والشامي، مشروع قدمته الحكومة وصادق عليه البرلمان، عَمِرَتْ الشامي وشُقَّتْ طرقاتها ذات اليمين والشمائل وصُمِّمَتْ على أحسن وجه، أما انبيكت لحواش المسكينة فما تزال تعفوها الروامس،

 لأنها لم تكن مُرَادَةً بالقصد الأول كما يقول الأصوليون ولا بالقصد الثاني كما يقول الواقع، لم تكن سوى مجرد غطاء سمج لقرار بالغ الوقاحة تفوح من جنباته روائح ليست من بينها رائحة الوطن.
هل نحن بحاجة لقرى جديدة؟ سؤال استنكاري طرحه الرئيس ذات فورة عاطفية بحماس ظاهر! التقري العشوائي يهزم الدولة، نظرة عبقرية تفتقت عنها قريحة الرئيس، صحيحة الأصل خاطئة القصد، كان الهدف الأول هو إشغال الرأي العام عن أزمة العطش التي كانت تفتك ببعض قرى الحوض الغربي وتنتهك حياة ساكنة مثلث الفقر، أما الهدف الثاني فكان إشباع رغبة أميرية قديمة، بناء مدينة للرئيس ومحيطه.
قُرِّر تجميعُ 22 قرية في (ترمس)، وعدد آخر مشابه في (بورات)، إضافة إلى إنشاء مقاطعة انبيكت لحواش، تم التدشين وأذيع الخبر عبر أثير إذاعتنا الوطنية وأسدل الستار، انتهت حلقة من مسرحية "الزعيم"، الثلاثة (انبيكت لحواش ـ تجمع بورات ـ تجمع ترمس) أوفر ساكنة وأدقع فقرا وأكثر حاجة ولكن قلب الرئيس كان مع الشامي وعينه كانت على الشامي، الشامي والشامي فقط!
الإرادة الذاتية في بناء تلك المدينة المنغرزة وسط صحراء لا تسكنها إلا الصبا والدبور تترجمها أشغال البناء والإضاءة وخدمات الماء والكهرباء التي حولت تلك البقعة القاحلة إلى مدينة عصرية في وقت قياسي، قريبا ـ حسب وجهة نظري ـ ستبدأ أعمال الحفر لمد مياه البحر نحوها كي تصبح مدينة شاطئية أعني منتزها شخصيا وعائليا جذابا ومريحا.
الأشغال الضخمة التي بذلت لتشييد مدينة الشامي تُذَكِّرُنِي بما أورده المؤرخون عن ما فعله الأمير عبد الرحمن الناصر المعروف بـ(عبد الرحمن الثالث) في بناء مدينة الزهراء، ـ مع فرق كبير بين الاثنين ـ فقد بلغ عدد العمالة اليومية في بناء تلك المدينة عشرة آلاف عامل كل يوم، إضافة إلى ألف وخمسمائة دابة لنقل مواد البناء، يستخدمون ستة آلاف قطعة من الصخر المنحوت في البناء.
لا يداخلني شك في أن الرئيس لم يخطر بباله ذلك الأمير ولا تلك المدينة بل ربما لم يسمع اسمهما أصلا ـ فالناصر ليس من رؤساء إفريقيا والزهراء حينها لم تكن مشهورة بتجارة "العشب الشيطاني"، ذلك فرق، أما الفرق الثاني فهو أن مدينة الزهراء بنيت بمال ورثه الناصر عن إحدى جواريه وباقتراح من إحداهن سميت المدينة باسمها، أما مدينة الشامي فبنيت من مال هذا الشعب المسكين الذي يعيش خمسة أسداسه في ضحضاح فقر لا منار به، لكن هل علم صاحب الفخامة أن الأضواء خفتت في الزهراء بعد موت الناصر وأضاءت مصابيحها مدينة الزاهرة التي بناها أحد حجاب من ورثوا عرشه!
بشكل موضوعي لماذا لا يشمل مشروع الإعمار مدينة انبكيت لحواش كما شملها قرار الإنشاء؟ ما هي عائدات التنمية والرفاهية لمدينة الشامي؟ سؤال آخر؛ كم مواطنا سيستفيد من خدماتها الميسرة؟ مدينة الشامي الواقعة في ولاية من أقل ولايات الوطن كثافة سكانية هي التي تتجه عاطفة الرئيس للإغداق عليها بسخاء.
جريمة الشامي هي واحدة من جرائم كثيرة ترتكبها موريتانيا المحكومة بمنطق "اللامنطق" والمسيرة وفق استراتيجية "الفوضى" التي تصب دائما في المصلحة الشخصية للرئيس، لو لم يكن الأمر كذلك فإن نواكشوط عاصمتنا المشوهة أحوج إلى شوارع مبلطة مضاءة وأحوج إلى جعلها مدينة عصرية.
"الشامي" سعيدة الحظ ميمونة الطالع، إنها محظية الرئيس، تُمْنَحُ فيلَّاتُها بقرار يصدر في جلسة عائلية، ولِمَ لا! هي إحدى "صفاياه" من "دولته"، هنيئا لك سيدي الرئيس:
لك المرباع فينا والصفايا   وحكمك والنصيفة والفضول
نواكشوط العاصمة المنكوبة التي تستقبل فيها "رؤساء إفريقيا" وأباطرة "العُشْب"، أو ليست أحقَّ بهذه الواجهة العصرية! أم أنك أردت بذلك أن تتخد لنفسك منتزها على طريق "مُعَبَّد"، منتزها بلا رصاص، منتزها يبعدك عن أنين مساكين "الكبات" وآهات محتجزي مركز الاستطباب وعن ضجيج ربات الأسر ساعة الغروب حيث تزدحم الحياة التعيسة عند ملتقى العيادة المجمَّعة (اكلينك)؟
تفكيرك ذكي، صحيح أن نواكشوط له من كل فصل مآسيه فله من الخريف مستنقعاته الآسنة وبعوضه الذي لا يرحم، وله من الشتاء تياراته الباردة المرسلة عبر ثقوب الأكواخ المتعبة في الأحياء الشعبية وله من الصيف شمسه الحارقة وطقسه التعيس، وأما في "الشامي" فستداعبك نسمات الأطلسي الرخية وسيمتد طرفك في بساط أرضي جميل.
سيدي الرئيس..لو كنت تحفظ شيئا قليلا من شعر ابن الطلبة لزاد جمال تلك الأرض في عينيك.
الحرص على إكمال مدينة الشامي في هذا الوقت القياسي وبهذه الطريقة النموذجية مريب سياسيا أيما ريبة ومخجل أخلاقيا حد البكاء، فلماذا لا تسخو الدولة لمشاريع أهم بهذه الإرادة والمتابعة وروح التنفيذ؟ أو ليست عواصم ولاياتنا الداخلية مثيرة للشفقة؟ هل رأيتم مدينة النعمة وكيفة وروصو وكيهيدي ووو؟ وهل ذهبتم إلى قلب عاصمتنا الغارق في آسنات بِرَكِ المواسير التي ضاق بها باطن الأرض، لا صرف صحي ولا هم يحزنون.
سيدي الرئيس..الشامي في الحقيقة مدينة جميلة. لو كنت بنيتَها من أموالك الخاصة لكانت تحفةً للناظرين بشوارعها الواسعة المبلطة بعناية وفيلاَّتِها المنضودة بفنية وأضوائها الزاهية حين تتوارى الشمس بالحجاب، لكنها ـ للأسف ـ بنيت من مال الشعب يتيمه وأرملته ومسكينه وقويه وضعيفه، لذلك هي جميلة الشكل ولكنها قذرة المضمون تماما كالخواتيم في أصابع المومس والأساور في معصميها، حسناء ولكن الفطرة السليمة تنفر عنها لأنها تعرف أن تلك الأساور والخواتيم مضمخة بدم الشرف المُرَاقِ في عتمة الإثم.

10. أبريل 2014 - 16:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا