بسم الله الرحمن الرحيم
سألني البعض عن حدود المسؤولية و الطاعة في العمل الإداري و عن مفهوم الطاعة في الإدارة ومتى يجب عصيان الأمر وتحمل المسؤولية. فأردت توضيح الصورة إبراء للذمة ومعذرة إلى ربنا، فالكثير
من الناس إمعة يؤمر فيأتمر وينهى فينتهي لا يعترض ولا يقترح ولا يناقش وهذا مفهوم سائد في إدارتنا.
عندما تسأل أحد العاملين في مسؤولية كبيرة أو صغيرة عن تصرف مخالف للمصلحة ظاهر في المفسدة ، يقول لك: أنا أنفذ الأوامر ولا أتحمل المسؤولية ويقول لك أنا أعلم أن هذا لا يخدم المصلحة، لكنى إن اعترضت على هذا تعرضت للطرد أو التهميش.وحرمت من العيش
وأحيانا يجند القبيلة والأنصار لتظهر شعبيته ليبقى في وظيفته ومسؤوليته في جو من الفساد المستمر لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه
ومن المبررات التي تذكر أنه إن ترك عمله وجد من يشغله وبالتالي لا فائدة من تركه ولا إنكاره ..ولأن المسؤولية على الدولة.
فهذا غير سليم وصاحبه مغرور سيندم عليه يوم لا ينفع الندم، والله تعلى كلف كل فرد بطاعته وحذره من معصيته ولا يحمل غيره وزره وقد قال الله تعالى (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى )
وقال: ( كل نفس بما كسبت رهينة ) وقال ( يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) وقد حكى الله تعلى عن خصومة المطيعين لأوامر رؤسائهم في الباطل وتبرئهم منهم فقال جل وعلا (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ
وقال ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) وقال (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )
والقاعدة التفسيرية: أن كل وعيد أوصفة أو حال ورد في الكفار يجر ذيله على عصاة المسلمين بالمشيئة. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فكل من أطاع شخصا في معصية فسيكون شريكه في العذاب وسيتبرأ منه يوم القيامة ولن ينفعه حجة الفقر والضعف والحاجة ..فقد ضمن الله تعالى لكل مخلوق رزقه كما ضمن له حياته فلا يمكن لأحد أن ينقص من عمره ولا رزقه ولا يزيد في رزقه ولا أجله مهما كان حبه له أو بغضه له ومهما كانت قوته أو جبروته لأن الله جل وعلا مالك الملك لا يمكن لأحد أن يتصرف إلا بإذنه ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ،
وقد طبق الأنبياء هذه العقيدة ودعوا أتباعهم لتطبيقها قال تعلى :(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين)
وقال حكاية عن نبي الله هود ( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)
وقد طبق أتباع الأنبياء في كل زمان هذه القاعدة فوقفوا مع الحق مهما كانت الظروف وقد علموا أن لا عذر لهم في إقرار الباطل تحت أي ذريعة فلم يعذر الله تعالى القاعدين عن نصرة الحق بسبب الخوف ولا قلة عدد المناصرين له فقال جل وعلا
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا )
قال المفسرون نزلت هذه الآية في قوم كانوا أسلموا والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر النبي عليه السلام أقاموا بمكة، فمنهم من ارتد إلى الشرك فتنه أبوه وعشيرته حتى ارتد، ومنهم من بقي على حاله.
فلما خرج المشركون لنصرة عيرهم إلى بدر خرجوا مع المشركين، وقالوا إن كان محمد في كثرة ذهبنا إليه، وإن كان في قلة بقينا في قومنا.
فلما التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، في بدر نظروه في قلة فبقوا في قومهم فقتلوا، فتوفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فاعتذروا بأنهم استضعفوا بمكة، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان} وهو من عجز عن الهجرة، ولا طاقة له بالخروج قد استضعفهم المشركون {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي لا يعرفون طريقاً يخلصهم من المشركين، لا قوة لهم ولا معرفة طريق {فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ [عَنْهُمْ
قال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا وأخفوا الإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم لقتال المسلمين، فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} الآية فكتب المسلمون إلى من بقي بمكة: ألا عذر لهم بهذه الآية، فخرجوا من مكة فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم
(وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله) فكتب بها المسلمون إليهم، فخرجوا، ويئسوا من كل خبر فنزل فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ}
فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: " يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك " ، فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) حتى فرغ منها ، قلت له: إنا لسنا نعبدهم ، فقال : " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه " ؟ قال قلت : بلى ، قال : " فتلك عبادتهم " . ومعنى هذا أن من أطاع شخصا في معصية الله فقد عبده لأنه عظمه حيث قدم أمره على أمر الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه بما عصاه به وقد يكون عابدا لهواه أو دنياه ومتبعا لشيطانه وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) ومن الهوى حب الدنيا والركون إليها حتى يعميه حبها عن الحق فيقدم هواه فيها على أمر الله فقد أخرج الترمذي من حديث أبي الدَّرْدَاءِ، رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ».
فإذا أحببت الدنيا وأربابها عميت عن الحق فعبدتها وعبدت أربابها فقدمت طاعتهم وهواك على طاعة الله ورضاه وهذا عين الخسران (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين)
.نعم قد يعجز المرء عن رد بعض الفساد فيتركه ويكون سالما من الإثم بشرط أن يكون عمله لمصلحة الدين يدرأ المفاسد ويجلب المصالح مع القصد الصالح والنية الحسنة .
ذلك أن الواجب هو جلب المصالح أو ما أمكن منها ودرء المفاسد أو ما أمكن منها، والله جل وعلا لا يكلف إلا بالوسع فإذا بذل الوسع سقط الإثم أما إذا قصر أو تعمد أو أهمل فالإثم حاصل لا محالة .
وهذه القاعدة تعطينا فرقا واضحا بين من أراد مصلحته الشخصية وبين من أراد مصلحة الإسلام والمسلمين والله مطلع على السرائر فليس من همه الدنيا كمن همه الآخرة زمن همه العدل كمن همه الحظ والهوى .
قد يقول البعض الناس كلهم لا يريدون إلا مصالحهم الشخصية وإذا تركت الفساد وابتعدت عن الظلم فسوف يستغنى عني وأبقى على الأثر ما نفعت نفسي ولا نفعت غيري .
فالجواب أن فساد الناس لا يبرر لك الفساد والخطأ لا يبرر الخطأ والأسوة في الحسن لا في السيء وتهميشك أو خوفك لا يبرر لك ظلم الناس ولا المشاركة في الفساد فستحاسب وحدك .(فاليوم تجزى كل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)