المكلف بالتشريع وغير المكلف.. / د.محمد فال الحسن ولد أمين

كان من قدر أغلب النصوص القانونية في موريتانيا أن تسن في الظلام، وأن تقبع بعد سنها في عتمة الأدرج بعيدا عن الأنظار والاهتمام، فالباحثون عنها لا يجدونها، وبعض القائمين عليها يبحثون عن غيرها. ولم يكن أحد يطلع على دواعي سنها،

 ولا على تعليل متنها، وكانت تمر بسلام تحت القبة المهيبة كالترانيم القداسية، وتنزل نقاشاتها سكينة ونعاسا على من حضر من أهل القبة، فلا يستفيق إلا وهو يرفع راحته مصوتا على مشروع القانون. وقد خلف ذلك السلوك في ذهنية الجهاز التنفيذي تكبرا وتعاليا على السادة النواب والشيوخ، وأصبحت السلطة التنفيذية لا تعول كثيرا على السلطة التشريعية في الصناعة القانونية، ولا تعبأ بها.
أما اليوم، فقد أصبح بعض الناس أكثر علما وفضولا، وأشد وعيا وحضورا، وأضحوا ينشرون مشاريع القوانين قبل عرضها على البرلمان، ويبينون مكامن الخلل فيها، ومواطن تناقضها، ومخالفتها للدستور، ويبدون فيها آراءهم، ويحاولون تسويقها على صفحاتهم. وكل ذلك بدعة جديدة لا عهد لنا بها من قبل، وسواء كانت من حسنات البدع أم من سيئاتها، فهي جديرة بالتأمل، فهي من جهتها الإيجابية أمارة من أمارات المواطنة الصالحة، فالناس هم مصدر السلطة، والقانون تعبير عن إرادتهم، لذلك عليهم مناقشته وتمحيصه حتى يكون تجسيدا خالصا لإرادتهم، فتقر به أفئدتهم، وتنصاع له جوارحهم، وكل ذلك يحسب لميزان المواقع الاجتماعية الجديدة ولثورة المعلومات ولإعلام "السبابة والإبهام." أما في جهتها الأخرى فهي تدل على أن في المجتمع خللا، فالمكلف بالتشريع لا يؤدي دوره، وغير المكلف به (أو غير المكلف مطلقا) يرهق نفسه بتولي ما لم يكلف به، فالأول أصبح مهددا بالبطالة الفنية، أما الثاني فقد كان في بطالة، ولا يزال فيها. ولو كان كلا منهما مقبلا على شأنه لما وقع هذا الخلل.
وأيا كان الأمر، فهذه الظاهرة تستلزم من السلطتين التنفيذية والتشريعية، أطال الله بقاءهما للبلاد والعباد، أن تعتبرا. فعلى الأولى أن تدرك أن القوانين باتت تحت أنظار الناس أكثر مما مضى، وأن الاختلاء بالمشروعات لم يعد مشروعا، وأن زمن القص واللصق قد ولى، وأن "مصادير" الشيخ غوغل أصبحوا يملؤون الوهاد والنجاد، وأن ترجمته باتت في كل المحافل والنوادي. أما السلطة الأخرى فهي أكثر حرجا من الأولى، فهي، في ما ينبغي أن يكون، صايغة التشريع وناقدته، وأعضاؤها هم جهابذته وسدنته. أما في يبدو من حال أعضائها فهم أحد أربعة: الأول نائب شعبوي ينظر إلى الكاميرا أكثر من نظره إلى المشروع الذي هو بصدد مناقشته، ومداخلته في العلنية أكثر من غيرها، ومنزلته عند بعض الجمهور أرفع من غيره. وهو يشغل الناس ويملأ الدنيا، تسمع جعجعته ولا ترى له طحينا. وهو يطالع ما كتبه الجمهور في المواقع عن القوانين ليذكره للناس تحت القبة. وليس عليه في الصناعة التشريعية أي معول. أما الثاني فهو النائب المتحزب الذي ينظر إلى الوزير أكثر من نظره إلى رئيس الجلسة، ولا يفرق بين برنامج الحكومة وتصرفاتها، ولا يكاد يفهم، من شدة انضباطيته، أن علة انتمائه للأغلبية أو للأقلية هو برنامج العمل، وليس أوجه الوزراء ولا قراراتهم، فرب وزير خالف برنامج رئيسه بسبب قلة التدبير، ورب قانون خرج عن سياقه بسبب خطأ في التقدير. أما ثالث القوم فهو النخبوي الجهبذ الذي يقدر الأمور حق قدرها، ويتعالى على سفساف القول، ويناقش المشروعات بتجرد وتعمق حتى إنك لتحسبه خبيرا في المحاسبة عند مناقشة الميزانية، وخبيرا في الطيف عند المداولة بشأن الاتصالات. وعلى هذا النوع يعول. وهو أندر من الكبريت الأحمر في قبتنا. أما الرابع فهو مستور الحال تحت القبة، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، يعيش في عصر الخويصة، ولا يناقش الشأن العام، ولا يجادل زملاءه، ويغيب أحيانا، وإذا حضر نظر إلى رئيس الجلسة أكثر من غيره قبل أن يسلم روحه للغفوة بعد الغفوة، ولا يعول عليه في شيء من الصناعة التشريعية. 


د.محمد فال الحسن ولد أمين
محامي وأستاذ جامعي
[email protected]

12. أبريل 2014 - 11:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا