لَــــيـْسَ !! / محمد عبد الله ولد ابَّابه

هــَذَا الْبَلَدْ (التعبير للأمانة العلمية: ملكية فكرية للرئيس عزيز) ينتمي على الصعيد التنموي والسياسي إلى فعل "ليس".
تلك هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها،  وبغض النظر عما إذا كان ذلك يحتاج لدليل إلا "إذا احتاج النهار إلى دليل"، بتعبير ولد الشيخ سيدي، فإنه من المهم أخلاقيا توضيح الفكرة أكثر.

خذونا،  قليلا، إلى حضرة أبي يزيد البسطامي،  لنكتشف معه ذاتنا أكثر فنردد معه: " خرجت من ليس إلى ليس في ليس نحو ليس". هذه هي العبارة التي اختارها "سلطان العارفين" للتعبير عن مراتب الفناء لدى الصوفية، لكنها تجد دلالة أعمق وأكثر تجذرا في واقعنا السياسي الموريتاني. إنها اللــّيْســِيّة: الفناء كمنطلق وكنهاية، و الفناء في المرحلة البرزخية التي يعيشها اليوم المنكب البرزخي بتعبير الشيخ محمد المامي. إنه لا يزال منكبا برزخيا، يتجه إلى ليس.
إن فعل ليس من حيث التصنيف الفلسفي فعل عدمي تماما، وهو على المستوى اللغوي يصنف في حقل الافعال الجامدة، فهو غير قابل للتصرف. هنالك تـَشَاكـُلٌ كبير بين "الدال"( ليس)، من حيث "الماهية" و"مدلوله"  "العدمي" (النفي). إن انتماءنا على المستوى المؤسسي إلى هذا الفعل السالب الجامد يقتضي منا التفكير مليا لاستبدال  شحنته " السالبة" و "العدمية" له بأخرى "موجبة" أكثر "وجودية"، مثل تلك  الشحنة المتحققة للفعل " أصبح". لاحظ أن هذا الفعل الأخير جميل يبعث على التفكير بالمستقبل. إن فيه معنى الحياة و الإنطلاق، وفوق ذلك هو فعل متصرف وموجب، أفلا يكون أحب الينا من الفعل اللعين: ليس؟ !
في البدء لم تكن هناك دولة، ولم تتبع موريتانيا على غرار ليبيا وتونس والجزائر للامبراطورية العثمانية،  فلم تعرف نظام الدايات التابعين للامبراطورية العثمانية.
كان السعديون  قد رفضوا إخضاع المغرب للامبراطورية العثمانية، ولكن المغرب كان "دولة".
صحيح أنها كانت تضيق وتتسع حسب مؤشري  مد وجزر "المخزن" و "السيبة"، (المعروفين في التنظير السياسي المغربي) لكنه وكما اسلفت كان دولة.
كانت موريتانيا تشكل نموذجا ثالثا، فهي لم تعرف السلطة المركزية الذاتية، ولم تتبع للامبراطورية العثمانية. تلك هي "ليسية"  الدولة الأولى.
وحين استقلت موريتانيا عن فرنسا كانت الاخيرة - على المستوى المؤسساتي - تنتمي الى فعل  ليس. لماذا؟ لأن المستعمر جُوبِهَ بمقاومة عسكرية من كل الإمارات، جعلته لا يطمئن لبناء منشئات وإقامة أجهزة على الأرض الموريتانية (عكسا للجزائر والسينغال) لذلك كان معظم مقام المستعمر في السينغال، وحين رحل المستعمر كنا على الصعيد المؤسسي ننتمي الى فعل "ليس".
وذات صباج جميل كنا نحلم ببناء مؤسسات (برلمان، حكومة، وأجهزة عسكرية ) محاولين التغلب على معوقات بنيوية (الجهة، القبيلة واللغة)، لكن الكابوس العسكري المخيف قطع حلمنا الناعم،  فاستيقظنا فجأة مذعورين من هول الكابوس العسكري، ولأنا لم نعرف بعدُ حدود صلاحيات المؤسسات، وهذا جزء من لــَيْســيِّتــِنـَا،  تركْنا للعسكر شأننا.  أكثر من ذلك فوقفنا الى جانب العسكر حتى يحافظ فعل "ليس" على جموده أكثر فأكثر!!
ومنذ ذلك الحين لم يطرأ أي تحسن على أي مستوى، بالمقارنة مع يجب أن نصل إليه . إن نظرة فاحصة على واقع الدول المجاورة تمثل أكبر دليل على ذلك، بما في ذلك مستوى "ديمقراطية السينغال" التي هي محط إعجاب قادة العالم الحر، وبما في ذلك "ارتفاع وعظمة جسورها". تلك الجسور المعدومة نهائيا في بلدنا الليسي !!
وإذا كنا جئنا من  "ليس" - ما قبل الدولة، عبر "ليس" العسكرية، إلى واقع "ليس" الحالي، فإننا على الصعيد الاستشرافي نتجه إلى: "ليس"، ( فهل شَطَحَ البسطامي فكان  يعني موريتانيا؟ !).
لقد شبه أحد كتابنا الكبار موريتانيا ببرج بيتزا الإيطالي المائل، الذي ينتظر السقوط في أي لحظة، لكن لا أحد يعرف بالضبط اللحظة التي سيسقط فيها.
هذا ما يمكن فهمه عندما نعرف أن الفقراء يزدادون فقرا ، والأغنياء - رغم قلتهم - يزدادون غنى ( غياب العدالة الاجتماعية) . يوما من الأيام سيتحول الإستياء إلى نقمة تجاه الاغنياء، ذلك هو سقوط بيتزا الموريتاني.
هذا هو الشعب الذي يجب أن نزرع قيم التعايش والتآخي غير الأجوف بينه. أن يكون الشعب: "ليس"، فذلك يعني أن الدولة تساوي: ليس. لقد قيل: " يمكن تصور شعب بدون ملك، لكن لا يمكن تصور ملك ( حاكم) بدون شعب.
الأمر يمكن فهمه أكثر عندما نلاحظ  شَخْصَنة القطاعات وغياب مَأْسَسِتها ، فالقطاعات أصبحت تحمل ماركة شخص معين، وبمستوى رضى رأس الدولة عن فلان يكون تكديس الصلاحيات في يد قطاع ما بحجة انه يقوده فلان، وانتزاعها من آخر بحجة أنه يقوده علان  أو كان - في تاريخ سحيق -  يقوده. هذا الوضع يؤدى الى تلاغي وصدام المرافق العمومية بَدَلَ سيادة روح الفريق بينها والتعاون فيما بينها.
هذه المرافق العمومية هي: الدولة (السلطة)، وحين تشل حركية أحدها فإن ذلك يعني التقوقع في فعل ليس.
الارض عنصر حيوي من وسائل الانتاج، لكنها غير مستغلة بالشكل الكافي، والمستغل منها يستغل بأيدي أجنبية  لا تتصور منها الوطنية أبدا، والباقي فيه لليد الخاصة دور حيوي، (هنا يكمن شيطان البطالة، انعدام الامل والشعور بالحرمان) . في التفسير المادي للقيم ينظر إلى ارتباط الإنسان بالارض بأنه مصلحي (هنالك براهين واقعية ودلائل تاريخية على الأمر).
إننا- حتى لا نكون متشائمين- نحتاج للتخلص من "ليس"، لأحد أمرين إما:
- العودة الى مؤتمر ألاك 1958  ، وهذه  الخطوة مشيٌ للقَهْقَرى، ولكنها قد تكون ضرورية للإتفاق - ما بعد المرحلة العسكرية، على البناء أولا، سبيلا للتنمية ثانيا.
- رفْضَنَا (أحزابا، مجتمعا مدنيا، وتنظيمات شبابية)  أي انتخابات يشارك فيها العسكر أو يدعمها، حتى نحصل على رئيس يفهمنا انتخابياً، بدون  أن يقول "فهمتكم"، أو حتى لا يقول بعضنا للبعض – لا قدر الله - فهمتكم!

14. أبريل 2014 - 20:13

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا