كانت موريتانيا عشية الذكرى الخامسة عشرة لاستقلالها في نوفمبر 1975 تجتاز بنجاح منعطفا فارقا في تاريخها الحديث حين أعطت استقلالها الوطني مضمونا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا تبلورت خطوطه العريضة إبان مهرجان الشباب في أغسطس 1974،
فراجعت اتفاقيات التبعية المذلة لفرنسا، وخرجت من منطقة الفرنك وضربت عملتها الوطنية (الأوقية) وأممت صناعة استخراج المعادن والبنوكَ، ورسّمت العربية واعترفت باللهجات الوطنية، ودعمت المواد الأساسية (سونمكس) والأدوية (فارماريم) واهتمت بالصناعة (مصنعا السكر وتكرير النفط) وبالزراعة (سهل امبوريي).. الخ. وتصالحت مع شبابها وشعبها فأعلنت العفو العام عن السجناء والمطلوبين من الحركة الوطنية وسوت أوضاعهم، ووسعت الحريات، وأجرت بعض الإصلاحات الاجتماعية والهيكلية الضرورية كتأميم التعليم والصحة، والشروع في بناء طريق الأمل (شريان والحدة الوطنية) وميناء نواكشوط الدولي، وافتتاح معرض وطني، وإصدار ميثاق وطني تقدمي يلغي استغلال الإنسان للإنسان.
لقد كان المستقبل يومئذ وضاء وواعدا، والحماس الوطني منقطع النظير. فأخيرا آتت تضحيات الشباب الموريتاني الرائع أكلها، وتبوأ الوطن الموريتاني مكانة متميزة بين الأمم، رغم شح موارد الدولة وضعف إمكانياتها وانعدام البنى التحتية الموروثة عن الاستعمار فيها. وكانت "ريشة الفن" ترصد وترسم لوحة هذه الملحمة:
هللي موريتان ما ذاك إلا
هللي موريتان ما نحن إلا
وابشري صفقي لوثبة نبع
حاول الغرب حبسه ذات يوم
فانبرى يمضغ السدود ويجري
ومضة من سراجك المتلالي
قطرة من معينك السلسال
ظل يسقي مواكب الأجيال
عن مجاريه عبر هذي الرمال
لا يبالي بشأنها لا يبالي
بيد أن قوى داخلية وخارجية لا تريد الخير لموريتانيا، وتنكر إشعاع نهضتها الرائدة لما تشكله من خطر على امتيازات تلك القوى، ظلت تتربص بالوطن الدوائر وتتوثب للانقضاض عليه واجتثاثه من أصله. وقد تمثلت تلك القوى أساسا في المحافظين المتعنتين من الطبقة السياسية الحاكمة المرتبطين ارتباطا وثيقا بالاستعمار والذين نظموا صفوفهم في حزب سياسي سري يدعى "حزب العدالة الموريتاني". هذا في الداخل. وفي الخارج وقفت الدوائر الاستعمارية الغربية في مقدمة المعادين؛ حرصا منها على مصالحها الاستعمارية ولما يمثله النموذج الموريتاني الآبق من خطر على النظام الاستعماري الجديد في إفريقيا والعالم الثالث. بينما اختصم الجيران من كل حدب وصوب "يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم".
وفي تلك الأجواء المشحونة بالعداء للإصلاحات الوطنية في موريتانيا، فجر المغرب قنبلة "المسيرة الخضراء" مستغلا التحولات الوشيكة في إسبانيا مع أفول شمس فرانكو، فانهد استقرار المنطقة، وبدأت نذر الحرب تلوح في الأفق.
وفي 14 نوفمبر 1975 أبرمت اتفاقيات مدريد الثلاثية التي قسمت "الصحراء" بين المغرب وموريتانيا، فشكلت ذريعة لحرب عبثية بين الأشقاء. تلك الحرب التي ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا تقسم المنطقة وتقف عائقا دون وحدة شعوبها وتهدر مقدراتها في صناعة الخراب والإرهاب بدل توجيهها نحو التنمية والبناء.
لقد كانت موريتانيا إذن في غنى عن دخول مغامرة غير محسوبة كالحرب؛ مغامرة لا تملك شروطها الضرورية، وتتعارض تماما مع طبيعة أهلها المسالمين مهما كانت الدوافع إليها. ولذلك عارضت القوى الوطنية الدخول في تلك الحرب، وحذرت السلطة من عواقبها المدمرة! ولكن المحافظين المتعنتين وسوسوا لها وأصروا على جر الوطن إلى الهاوية متذرعين ببعبع المطامع المغربية التقليدية في موريتانيا، وبضرورة إبعاد الحدود مع المغرب عن طريق الحديد (شريان الاقتصاد الموريتاني). ورغم ما يظهر في هذا المنطق من وجاهة فإن بعض القائلين به كانوا يطمعون في الاستيلاء على السلطة وتصفية الاتجاه الوطني، ويرون في الحرب وسيلة مثلى لبلوغ هدفهم. وباندلاع الحرب بدأت أوضاع موريتانيا تسوء يوما بعد يوم.. خاصة بعد تبني المقاتلين الصحراويين وحلفائهم سياسة "الحلقة الضعيفة" والأرض المحروقة إزاء موريتانيا التي ركزوا عليها كلها شرقها وغربها وجنوبها وشمالها دون غيرها؛ إمعانا منهم في الإضرار بها وسعيا وراء تخريبها وإركاعها. الشيء الذي أفقدهم التأييد والتعاطف الذي كانوا يتمتعون به في موريتانيا في البداية، وأثار في نفوس الموريتانيين ذكريات وأحقاد أزمنة السيبة والنهب. ثم كان انقلاب العاشر من يوليو 1978 فبدأ الانهيار..
لم يستطع الانقلابيون الاحتفاظ بغنيمتهم لاختلاف أهوائهم وانعدام مشروع سياسي لديهم وجشع بعضهم، فصفى بعضهم بعضا خلال أشهر من الانقلاب، وبدأت فصول الردة إلى كنف القبيلة والجهة، والسطو على المال العام، تترى. وجاء انهيار محاولة إقامة مجلس استشاري يمثل مختلف أنحاء البلاد ويدعم سلطة الانقلاب ليكرس عزلة الانقلابيين ويفاقم أزمة البلاد. وعندها تحرك قادة في الجيش يتشبثون بالشرعية ولم يشاركوا في انقلاب العاشر من يوليو أصلا، فقاموا بالتخطيط لانقلاب 6 ابريل وقادوه متبنين إصلاح ما أفسده العاشر من يوليو. ولكن سلطة 6 إبريل التي لا تتناسب طموحاتها مع قوتها وتنظيمها؛ والتي تتشكل أساسا من الرئيس أحمد ولد بوسيف والعقيد محمد ولد اب ولد عبد القادر، وإلى حد ما العقيدين الشيخ ولد بيده ومعاوية ولد سيد أحمد ولد الطائع، ارتكبت نفس الخطأ الذي وقع فيه قبلها منفذو انقلاب 10 يوليو، فسلمت قيادة الجيش لغيرها واتكأت على أرائك السلطة الوثيرة. ولذلك فما إن اختفت طائرة الرئيس المرحوم أحمد ولد بوسيف وصحبه في المحيط قبالة داكار حتى تلاشت معها سلطة السادس ابريل.
وفي 31 مايو، أي بعد ثلاثة أيام فقط من سقوط طائرة الرئيس أحمد ولد بوسيف، وتحت تحريض الجماعات اليسارية والعنصرية التي هيأت للإطاحة بـ6 ابريل ومشروعه الوطني اغتنمت العناصر الموالية للمقاتلين الصحراويين وحلفائهم في اللجنة العسكرية الفرصة النادرة التي سنحت لها فاستعادت المبادرة من 6 إبريل وعينت أحد أركانها رئيسا للجنة العسكرية ووزيرا أول. ومن حينها تتالى السقوط بسرعة البرق: توقيع اتفاقية سلام دون مقابل حتى ولو كان إطلاق سراح الأسرى الموريتانيين العانين، الهروب من وادي الذهب، إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الجزائر وقطعها مع المغرب والاعتراف بالجمهورية العربية الصحراوية! لقد تم إذن اختطاف موريتانيا نهائيا وتكريس ارتهانها للغير دون إرادة شعبها. فكان لا بد من عمل شيء!