في السادس من مارس 1992م (إذا لم تخني الذاكرة) أجري انتخاب النواب في عموم التراب الوطني. كان ذلك اليوم جمعة، وكان البداية الفعلية لرمضان 1412هـ (أعلن ثبوت رؤية الهلال مساء الخميس فأمسك الناس حوالي ساعتين)
في ذلك اليوم كنت في مكتب تصويت بوأته الإدارة زنزانة شيدت من براميل الحديد وسميت قسما دراسيا في إحدى قرى الداخل. بدأت رياح "إريفي" مع بداية اليوم، وأذكر (وليس هذا "محل الشاهد") أنني كنت الصائم الوحيد في هيئة مكتب التصويت؛ مدنييها وعسكرييها، وحين زاغت الشمس قابلت الباب فازداد الحر وتضاعفت المعاناة.
رغم الحرارة الفائقة المحسوسة فقد كنا في برودة تامة من الناحية المعنوية؛ إذ لا يوجد في تلك الدائرة – شأنها شأن أغلب الدوائر الانتخابية يومها- سوى بغل رهان يستن وحيدا في الميدان حاملا مرشح الكيان المتحول جنسيا منذ قليل من هياكل تهذيب الجماهير إلى الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي في رحلة تناسخ الأرواح المستمرة حتى اليوم..
أما المعارضة التي كانت قيد التشكل فقد قاطعت ذلك الاقتراع بعد ما لدغت في سابقه (الرئاسي) إلا أن بعض من يدّعون الاستقلال لم تسمح لهم شهامتهم بترك الحزب الجمهوري وحيدا في الميدان فنافسوه في بعض الدوائر، وبعد تفويز من أريد الفوز له منهم تحولوا من مستقلين (بعضهم يبدل القاف غينا مفتوحة، ولعله الصواب) إلى جمهوريين "أصلاء".
بعد العصر هدأ هبوب الرياح وإن بقيت الحرارة قريبة مما كانت، وكان الناخبون قد عبروا عن أصواتهم فلم يعد لدينا ما نفعله سوى انتظار انتهاء الوقت القانوني لفرز الأصوات وإعداد المحضر. لذا خرجت من المكتب إلى خيمة مجاورة له تلقاني ربها الأشيب بالبشر والترحاب (رحمه الله وجزاه بأحسن ما عمل) ونشر لي "إيليويشا" في ظلها استلقيت عليه، وجلس على حافته يدلك رجلي وبدأ ينشد ما يراه شعرا أبْدَعَه.
كان الإنشاد سيئا، والصور باهتة، والمادة مصابة بفقر الخيال، والوزن مكسرا، والنحو ممزقا، أما الصرف فلا شأن "للشاعر" به! لذا ما إن استهل الإلقاء حتى نسيت الكرب الذي جاء بي إليه بتأثير الكرب الجديد، وشعرت كأني أكاد أنفجر، ووددت لو قطع الإنشاد لأي سبب -ولو لسعال- لتتسنى لي "العودة إلى سيدي ذي الشهاب الواحد" ولكن جماح الكلمات كان عصيا على الكبح.
بعد مدة من القصف بـ"الشعر" وبينما أنا في قمة التوتر توقف الرجل ليسألني (وليته فعل عند البداية): "أنت اصَّ أياكْ اتنزَّل الشعر؟" قلت بهدوء وأنا أجتهد في إخفاء الغثيان الذي أشعر به: "ماهُ حتَّ. شِ بعد منُّ زينْ إخدَّرْني" لكن نرجسية مضيفي ذهبت به بعيدا عن مرمى كلماتي التي حرصت على تدوير زواياها فقال: "ذاكُ الحگ! آن شفتك اصردت.. انت ابتل بارودك"!
بعد قليل أقبلت مواشي الحي مشكورة فحالت دون القريض وانشغل الرجل بحصته منها فانصرفت إلى نعيم المكتب وأنا أشعر برأسي عبئا ثقيلا مؤلما على بدني، ولم يطل الوقت حتى حان الإفطار وبدأ الفرز وانتهت المهمة وغادرت المكان نادما على ما فات آملا أن لا أعود،. ولم يفارقني الصداع إلا بعد يومين، وكانت المرة الوحيدة التي أشعر فيها بالصداع خلال الصوم حتى اليوم.
علمت منذ سنوات تناهز العشر بوفاة "الشاعر" فشعرت بارتياح أصالة عن نفسي ونيابة عن الخليل وابن مالك، وظلت ذكراه تعاودني من وقت لآخر بسبب أو دون سبب، حتى تجددت بجلاء منذ أيام حين راجعت إحدى المكتبات التجارية بالعاصمة للاطلاع على وضعية مؤلفاتي المعروضة لديها (من بينها تحقيق وشرح لشواهد القاموس المحيط) فلقيت بها أشيب من طينة الراحل أقبل علي وأهدر ربع ساعة من حياتي وهو يشرح لي باعتناء وامتنان "فتحة القاموس" ويدربني على طريقة استخراج الكلمات منه بطريقة تشوبها أخطاء بررها - دون قصد- حين قال إنه استفاد هذا العلم منذ شهرين ويحرص على إسدائه للكل ابتغاء وجه الله.
استمر الرجل في شرحه وهو يمسك يدي بحرص ويشد عليها دون كلل، بينما كان همي مشاغلته وصرف وجهه عن أصحاب المكتبة الذين ذهب الضحك بهم كل مذهب فشغلوا بمتابعة حديثه "الشيق" عن البيع ومراقبة الزوار.
تلكأ مرة فسكت لترتيب أفكاره فتزحزحت للإفلات من قبضته فشد على يدي واستبقاني. وخلال الحديث سألني ما هو الكتاب الذي جئت لاقتنائه فرددت عليه -هربا من الإجابة- بالسؤال: بماذا تنصحونني؟ قال: "بالأخضري وآجروم. ولكن طيب سراتك أولا واقرأ الرسم والتجويد، ولا تنس أن تعصم دينك. العلم ما فيه سَحْوَه!".
لم أجد الخلاص من قبضته إلا حين شعر برغبة في استنشاق التبغ فاحتاج ليده المشغولة بي وأرسل يدي ليخرج "قصبة شمه" ويستعملها، فخرجت من المكتبة دون إنجاز ما جئت له مكتفيا بنعمة الحرية التي استعدتها، وأنا أحس بإيلام قبضته. ناداني منبها على أن للحديث بقية، قلت إن لدي ما يدعو للذهاب الآن، فقال: "الناس ما اتل هامْهَ التعلم" وأفف على الزمان تأفيفا قاسمته إياه في نفسي؛ لكن من الزاوية الأخرى.
أعاد الرجل إلى ذهني حالات طريفة عايشتها على امتداد ما مضى من حياتي ربما أتسلى لاحقا بذكر بعضها.