تكاد تكون الديمقراطية في عقول العامة من الموريتانيين مجرد طقوس خالية من بعدها الروحي، أي أنها عبارة عن عملية ميكانيكية للتصويت و تسفيه الديمقراطية نفسها، أما أولئك الذين يعتقدون أن الديمقراطية ثقافة قبل أن تكون ممارسة،
فهؤلاء مطهدون بمغالطات واقعية مريضة من خلال تسويق عجز الوجوه السياسية الموجودة عن تحقيق ذلك، لا لكفاءتهم و لا لنضالهم وإنما فقط لأن النظام المستبد لن يسمح بذلك وبالتالي استحالة التغيير المنشود.
فالنظام يسخر موارد الدولة وسلطانها ورجال أعمالها قبل مخبريها لتشويه الديمقراطية، أما الأحزاب السياسية فقد تحولت في أغلبها إلى مؤسسات خدمية، مما يستوجب عليها الحصول على أموال من جهات رسمية أو غير رسمية ،وهو ما سيشكل خطرا على الفهم السليم لدور الأحزاب ذات المشروع التغييري.
إن وضعا سياسيا كهذا كان انعكاسا طبيعيا لردة الفعل على التجربة الديمقراطية الناشئة بعد انقلاب 3 أغسطس، حيث كان التحدي أمام نظام الرئيس "المؤتمن" في أول تجربة ديمقراطية هو مدى قدرته على تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، تنسي المواطنين عقود البؤس والقحط التي أورثهم إياها نظام العقيد وزبانيته حينها، متجاهلين أن إصلاح ثلاثين سنة من الأنظمة العسكرية من غير الوارد في سنة يتيمة، ربما هذا ما فهمه العسكريون ليجعلوا مما سمي حينها بثورة الجياع ، ذلك الحراك النضالي الذي خضناه كحالمين، لترسيخ الديمقراطية طريقا سالما أمام كتيبة الرئاسة وعرابها لكن يأبى القدر إلا أن ينتهي المشهد بردة فعل بسبب الإقالة تعكس نية العسكري الانقلابي.
ذلك الانقلاب الذي لم تمر أيامه بردا وسلاما على الانقلابيين، حيث خاض الجميع نضالا ضده انتهى باتفاق دكار الذي ظننا أنه كان قادرا على جلب الحظ للموريتانيين بتوافق سياسي مستمر يؤسس لدولة ديمقراطية كما السنغال، لكن ذلك لم يكن سوى استمرار لانتهاك الدستور، فوافقت الأطراف على أمل أن تطبق بنود اتفاق دكار بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، وهو ما لم يحدث، ورغم ذلك فقد ظلت المعارضة تطالب بتطبيق البند السابع المتعلق بمواصلة الحوار الوطني الجامع ما بعد الانتخابات الرئاسية الذي يتمحور حول الأمور التالية:
ـ تعزيز أساس وممارسة الديمقراطية التعددية وكذلك تفادي الثغرات غير الدستورية لنظام الحكم.
ـ الارتقاء بالحكم الراشد السياسي والاقتصادي ودولة القانون واحترام حقوق الإنسان وإعداد واعتماد إصلاحات من شأنها تعزيز حسن التسيير وتحقيق التوازن لمؤسسات الجمهورية.
ـ بحث إمكانية وضع ترتيبات سياسية للشراكة في ممارسة الحكم وكذلك آفاق إجراء انتخابات تشريعية مسبقة.
ـ تعزيز الوحدة والمصالحة والاستقرار وتنقية الحياة العامة والعمل على إنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
لكن ذلك الاتفاق لم يكن سوى سلم أوصل الجنرال إلى مقاليد السلطة ، فما كان منه إلا أن تنكر للبنود السابقة وتابع انفراده بالسلطة وداس على الدستور وآجاله فيما يتعلق بالانتخابات التشريعية والبلدية، ويكفي لبعض القوى السياسية شرف أنها رفضت المشاركة معه في مهازل غير دستورية، وأنها اليوم لا تزال صامدة لتحقيق الديمقراطية في هذا البلد المغضوب عليه بحكم العسكر ومريديه.
أما حوار النظام اليوم فهو مغالطة غير بريئة للرأي العام بأن المعارضة فشلت في شعار الرحيل ، لكن مهزلة 23 نوفمبر أثبتت هي الأخرى أن شعار الرحيل الانتخابي أكثر فشلا وأقل طموحا ومبدئية مع نظام الجنرال.
إن على منتدى الديمقراطية والوحدة أن يدرك أن إرادة النظام تتمحور في الأمور التالية:
- خلق معارضة من بقايا الأنظمة السابقة والأحزاب الخدمية لتمرير توافقاته السياسية غير الدستورية.
- تحسين صورته أمام الدول الغربية التي يرتبط معها بمصالح استثمارية ضيقة تخدمه شخصيا،
- تأجيل الانتخابات الرئاسية، بتوافق مع ذلك الطيف
- تعديلات دستورية تعيد البلاد إلى ماقبل 2005
وأن تدرك أيضا أن للمواطن طموحه الشرعي في دولة القانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية، وأنه لن يقبل بأقل من ذلك مهما أتفق الجميع على عكس ذلك، أما هم كساسة وهيئات مجتمع مدني وشخصيات ومستقلة فعليهم إدراك أن:
- الفترة الزمنية المتبقية غير قادرة على تطبيق ضمانات وثيقة الشفافية
- طلب تأجيل الانتخابات، ليس من حقها ولا حتى من حق ولد عبد العزيز
ويبقى السؤال المطروح ماهو المخرج من هذه الأزمة من منظور المشاركين في الحوار ؟
- إشراف سياسي محايد وذو مصداقية
- مؤسسات انتخابية يوثق بها
- حياد وسائل الدولة وسلطانها
- تحضير مادي وفني
- استقالة محمد ولد عبد العزيز لتتمكن القوى السياسية من تحقيق ذلك
عندها سيكون من الوارد مشاركة المعارضة في الانتخابات، أما إذا رفض النظام ذلك سيكون على المنتدى :
- رفض المشاركة في الانتخابات، واعتبارها انتخابات أحادية
- خوض نضالات شعبية قوية ضد النظام، أكثر قوة وحشدا وأطول نفسا من سابقها
- حملة شعبية مناهضة للتدخل الغربي في الشأن الوطني
- مطالبة المعارضة تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة لا يكون ولد عبد العزيز جزءا منها.
ورغم الاختلاف في تقييم جدوائية الحوار الحالي بين النظام والمعارضة، إلا أن مخرجاته كفيلة بالحكم على جدية النظام في إخراج البلاد من عهد الاستبداد إلى الديمقراطية، ومدى جاهزية المعارضة للتضحية والعطاء في سبيل دولة القانون، لا دولة المحاصصة والزبونية.